تقترب الإشارات البصرية في الصور الضوئية (وجوه، ظلال، عصافير...) من مشاهدها، تهمس بجمل خافتة تكاد لا تُسمع، بوقع مثير وغرائبي. لا يدل عنوان معرض التصوير الفوتوغرافي «Punctum» للوهلة الأولى على معنى أو إشارة واضحة لموضوعه الإنساني الصرف، تفسير الكلمة اللاتينية كما أتى في بطاقة الدعوة للمعرض المقام في معهد «غوته» في دمشق، يخفف التساؤل. و «Punctum» مصطلح أطلقه الفرنسي رولان بارت في كتابه النقدي عن فن التصوير الفوتوغرافي «العلبة النيرة»، وتعني وخز المشاهد والتأثير فيه طويلاً. يشرح المصور الضوئي السوري مظفر سلمان معنى عنوان معرضه الأول، ويقول إن بارت ميّز في كتابه التأثير القوي للفوتوغراف عن العلاقة الهشة بين المرء وصور أخرى يتلاشى حضورها بعد دقائق من رؤيتها حيث جعلها تنتمي إلى مصطلحه الأول «Studium». ويرفض سلمان تلقيبه بالفنان، أو أي تصنيف يطلق على الصورة «صحافية، فنية». لقطات مُحيّرة في زمن وكيفية التقاطها، أخذها سلمان الحائز عام 2003 على شهادة خبرة في الترميم الأثري من جامعة وارسو - تدمر خلال تواجده في سورية وروما والهند، على مدى الأعوام الأربعة الماضية. والصور التقطت خلال جولات يومية بواقعية تتوازى وشاعرية اللحظة الإنسانية. بشر يتكلمون عبر كامل الوجه، وأحياناً بنظرات من دون اتجاه، ينتمون إلى الطفولة والشيخوخة في غالبيتهم، أي أن هناك شبه غياب للملامح الشابة «الانفعال التعبيري القوي في وجوه صغار وكبار السن يجذبني، ولا أعرف السبب» يقول سلمان، ويعتبر أن «الحدة الإنسانية تجعل بورتريات الأطفال مشابهة للأخرى المصورة للشيوخ»، معتبراً أن «السنين الأخيرة من مسيرة البشرية جعلت المدن تمتلئ بالوجوه التي لا تعني شيئاً، وهذا بسبب ضغوط الحياة وقسوة الواقع»، لكن بعض الوجوه الشابة لا زالت تحتفظ برونقها الإنساني النضر». بعض الصور لا ينجح فصلها عن البيئة الفقيرة أو المهمشة، ويتضح فيها بناء عمراني رديء، وربما غير متوافق مع الجماليات التي يبحث سلمان وراءها، ويجيب على اختلاط هذه المشاهد مع نظرته العامة في بعض الصور أن «الجمالية ليست مرهونة بأشكال محددة، والإنسان هو من صنع محيطه في الطبيعة ليصبح جزءاً منها». ويضيف: «هذا الشيء البشع، وخراب المدن نحن من نعيشه، وبالتالي أصبح مقطعاً مهماً من طبيعتنا». يلقب سلمان نفسه كمصور «بصائد الفرح»، لكن الحزن يتوازى بدقة مع فرحه، ويفسر تقنية صورة يظهر فيها ظلان طويلان ممتدان على شارع في مدينة حمص «هذان الطفلان لو مرا في الظهيرة من نفس المكان لاختفى الظل، ولكانت الصورة أقل من عادية، لذا ليس للمكان أي أهمية». تكريس «التجريب والتجريد» في أسلوب التصوير الفوتوغرافي السوري يثير حفيظة المصور الشاب داعياً الى الفصل بين الرسم والتصوير الضوئي «الصورة هي صورة وليست شيئاً آخر»، ولا يخفي سلمان تأثره بمجموعة «ماغنوم» الفوتوغرافية العالمية «أمثل بيئتي السورية أيضاً وأنا ابن مشاهدها». الصمت والحركة لدى الإنسان، يقترنان بالظلال المهيمنة على تقنية الأبيض والأسود المستعملة في المعرض، وكأنها مسرحية يمثل فيها الأسود دور الظل، والأبيض دور الضوء «الظل يتحول ولا يأخذ طولاً أو حجماً واحداً، وهو امتداد للشخصية الإنسانية، لكنه ليس صورة طبق الأصل»، وكأنها لعبة الظلال والضوء يحركها سلمان في صوره لصالح تفرد اللقطة ليؤكد على «دلالات رمزية عالية»، لكنه يرى الظل بطريقة لا تخضع للمنطق، يقول : «إذا سئل الظل هل يوجد نور في هذا العالم؟ سيقول: لا». اللون يظهر دخيلاً في صورة واحدة من المعرض، أزرقَ ومجاوراً لعصفور ميت على الأرض، معتنياً بتخفيف الألم، عبر سكينته الرمزية. تقديم المشهد بعيداً تزيينه هو هدف أساس في فوتوغرافية سلمان «الأبيض والأسود يساعداني على تنفيذ ذلك بحيادية». تأتي عناوين بعض الصور مقترنة مع عمل سلمان الصحفي، «في انتظار أنجلينا جولي» اسم لصورة تشخص رجلاً شبه نائم على كرسي في حديقة عامة وإلى جانبه عصفوران، فهل كان الرجل الكهل دارياً بزيارتها سورية؟ يرد سلمان على سؤالنا : «بل أنا من كنت أنتظر حضورها أمام أحد الفنادق الفخمة في دمشق، لألتقط لها صورة لكنها لم تأتِ». عام 2006 فاز سلمان بصور تمثل واقع حياة الشباب السوري في مسابقة (Crossing Glances) للتصوير الضوئي في إيطاليا، وشارك في معرضها الجماعي في روما وغالبية دول ومدن حوض البحر المتوسط (مصر، المغرب، سورية، تونس، الجزائر، تركيا)، إضافة إلى بروكسيل. وتعود بداية هوسه بالتصوير الضوئي إلى لحظة قرر فيها تحميض آخر فيلم صوره والده قبل وفاته، وفي حين فشل في تظهيره كاملاً، بسبب انقضاء عشرة أعوام على استعمال الفيلم، نجح في إخراج صورة واحدة منه إلى الضوء فكان «تقاطع التقنية مع اللحظة الإنسانية» كما يقول.