كأنه مارد خرج من قمقم مدفون في الصحراء، يريد التنفس، ويفعل كل ما حُرم منه ويرتكب كل جديد خلال مدة الدراسة التي قضاها رائد عبدالله في بلاد العم سام، وفقاً لما ذكره ابن عمه وصديقه الذي كثيراً ما امتعض من تصرفات رائد «المتناقضة» وانقلاب مبادئه وأخلاقياته رأساً على عقب، منذ لحظة وصوله إلى مقر دراسته... حتى قرار فصله من الجامعة. هيّأ له والده كل الظروف النفسية والمادية ليصبح «مهندساً ميكانيكياً»، إلا أن انبهاره بالحضارة والانفتاح في الغرب من جهة، وطبيعة شخصيته «المزدوجة» وتواضع معتقداته من جهة أخرى، كل ذلك لعب دوراً كبيراً في اندفاع الشاب وراء أهوائه وإهمال دراسته، بحسب ما يؤكد ابن عمه خالد المبتعث أيضاً إلى أميركا. ولا يجد خالد أي ذريعة لما يفعله رائد ويرتكبه: «مبتعثون كثيرون يقضون وقت دراستهم في البيئة المنفتحة ذاتها، ولم يثنهم ذلك عن تحقيق طموحهم، فضلاً عن حرص معظمهم على عكس صورة مشرقة عن العرب والمسلمين في الغرب، عبر التزامهم بمبادئهم ودينهم وأخلاقهم». وفي ما يتعلق ببعض الايجابيات التي اكتسبها خالد وزملاؤه أثناء مكوثهم في أميركا، يوضح ان «احترام الوقت والالتزام بالمواعيد، وتطبيق قوانين القيادة بحذافيرها، وتنظيم أعمال الأسبوع، والتصرف بعفوية من دون ازدواجية، هي من أهم ما تعلمناه في غربتنا». من جهة ثانية، يتفانى والد الطفل لؤي في انتزاع المبادئ والأفكار الخيرة التي زرعتها معلمة الصف الثالث الابتدائي في سلوك طلابها، ليستبدلها بأخرى عنيفة، ظناً منه أنها ستكفل له قوته وتعايشه في مجتمع لا يراه سوى «غابة من الوحوش»، فاستبدل السلوك بموجب «المسامح كريم» و «حصل خير»... ب «الطيبة خيبة»، و «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب». ويبرر الوالد سلوك إبنه بأن عصر الطيبة والتعاليم الأخلاقية ولّى: «طبيعة العصر الذي تعيشه الأجيال الجديدة وأسلوب نشأتها، يختلفان تماماً عما تربينا عليه في السابق. فالبقاء حالياً للأقوى أكان على صواب أم على خطأ. وواجبي كأب حماية ابني وتحصين شخصيته من كل سوء قد يصيبه مستقبلاً». أم مساعد ربة منزل تُعتبر مثال آخر على انقلاب المعايير، فجارتها تؤكد انها لم تعد أم مساعد نفسها التي رفضت أن تدخل منزلها، لأنها تملك طبقاً فضائياً واشتراكاً في الإنترنت. وتوضّح الجارة قائلة: «لم تعد تنادي بتلك «الأسطوانة» التي اعتدناها خلال السنوات الماضية، بانتقاد سلوكيات الأمهات وتساهلهم في تطبيق الكثير من المبادئ على أولادهم». وتضيف الجارة: «كل ما كانت تحذّر منه أصبح شيئاً عادياً في مملكتها، فأصبح الساتلايت والانترنت جزءاً من أساسيات منزلها، أما ارتداء بناتها الملابس المخالفة للعادات والتقاليد فأصبح أمراً روتينياً». من جهتها، تشير الطبيبة النفسية، مها المشاري، إلى أن «الظروف الاجتماعية وتغير الأوضاع الاقتصادية، وسماحة الخطاب الديني حالياً ومرونته... لعبت دوراً كبيراً في تغيير سلوكيات الناس وطريقة تفكيرهم وبعض عاداتهم وتقاليدهم ولم يغير من ثوابتهم الدينية شيئاً». وتوضح أن «الأسرة التي تغرس في نفوس فلذاتها القيم والمبادئ والعادات الجميلة وتطبقها على نفسها أولاً، لن يعاني أبناؤها مستقبلاً حالة صراع مع ما يجدونه في المجتمع من تناقضات في التعاملات الأخلاقية، بل ستنتصر قيمهم».وتشير المشاري إلى بعض التغيرات التي طرأت على المجتمع حالياً مقارنة بحاله منذ عشر سنوات خلت: «كانت الأسرة تتمتع بسلطة وقدرة على السيطرة على أبنائها بشكل اكبر، ما تسبب في كبت الكثير من حاجاتهم. أما الآن فاعتمدت أساليب الحوار والنقاش ومنحتهم مساحة حرية يعبرون فيها عن أنفسهم، كما اضطرت إلى التنازل عن كثير من عاداتها وتشبثها بآراء وقيم معينة». وفي ما يتعلق بتمسك البعض بعاداتهم وتقاليدهم أو إهمالها، توضح: «للأسف أدى تمسك الكثير من فئات المجتمع ببعض العادات والتقاليد المتزمتة أدى إلى ظلم الرجل والمرأة معاً». وترى أن «أي إنسان تأتيه فرصة للتغيير سيقتنصها بطريقة ايجابية أو سلبية، فهناك مثلا الكثير من المغتربين في دول أجنبية ممن يعود إلى بلده بالكثير من الافكارالايجابية، والأهداف العلمية التي يسعى إلى تحقيقها وإفادة أبناء وطنه بها، والعكس صحيح». وتحذر المشاري من قسوة الأسر على أبنائها وإجبارهم على عمل ما لا يريدونه أو اتخاذ مواقف وردود فعل معينة من دون أدنى تفكير، «لأن ذلك يؤدي إلى خلق مجتمع يخلو من المودة والرحمة وشخصيات مكبوتة تعاني الازدواج والانفصام».