عرفتها أواسط الثمانينات من خلال زوجي علي أومليل الذي كان زميلها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. كانت أيامها منهمكة في تأليف كتابها «الحريم السياسي، عن النبي والنساء» -الذي ما زال يعتبر من أجمل ما كتبت وأهمِّه-، وكانت تأتي لتستشير زوجي في بعض القضايا المتعلقة بالتراث، إذ كانت حديثة عهد في التعامل مع الكتب العربية القديمة. كنتُ آنذاك أُحضّر ماجستير في «المنطق وتاريخ العلوم»، لكن اهتمامي بقضايا المرأة كان انشغالاً لم يفارقني البتة. سرعان ما تمت الألفة بيننا، زادها عمقاً انتماؤنا إلى المدينة نفسها. كانت تطرب كثيراً للحديث عن مدينتها العريقة «فاس»، وخصوصاً نساءها اللواتي أخذت عنهن الكثير، فالذي يعرف مجتمع فاس –كما كان في الماضي– لا يستغرب التركيبة العجيبة لشخصية فاطمة المرنيسي، فهي أصيلة ومعاصرة، تتبنى الجديد وتحافظ على القديم، في فن العيش وتأثيث البيت واللباس أيضاً، إذ لم يفارقها القفطان الذي ارتدته بكل أشكاله وألوانه، بل أبدعت في تصاميمه أيضاً بالطريقة التي تريحها وتروقها. إبداعها شغوف لا ينضب. كل شيء في فاطمة كان مضيئاً: طلتها، نظرتها، كلامها، كياستها، مزاجها... كل التفاصيل الجميلة حاضرة دون إسفاف أو مبالغة. سيدة التوازن الرشيق والحضور المتألق. سحرها وسحر بيتها يتواطآن في انسجام عجيب. الإضاءة في الصالون مواربة والألوان زاهية متناغمة. التُحف من إبداع صناع فاس منتقاة بعناية ومتناثرة في عشوائية مدروسة، رائحة العود الممزوج بماء الزهر تملأ المكان بعبق الماضي الجميل، وحضور فاطمة -سيدة الحداثة النسوية- يزيد المكان حميمية وأصالة استثنائيتين. دارها مقصد رجال ونساء من كل جهات العالم، ما أكثر ما تحلَّق حول مائدتها الأميركي والهندي والألماني والفرنسي والعربي... الألفة والكرم وأناقة الضيافة والحواجز تمّحي بين الضيوف والمضيفة. رصيدها حبها للناس وطلاوة الحديث والعشرة الطيبة. مناضلة حقوقية عريقة. رائدة في حركة حقوق الإنسان والمعيار بالنسبة إليها حقوق النساء. كانت تعرف أن النضال من أجل تمكين المرأة طويل وعسير، وأصعب منه تأصيله بالبحث العلمي الرصين والاجتهاد المبدع. بذلت –وهي ابنة المدارس والجامعات الأوربية والأميركية– جهدا جباراً للإلمام بالتراث العربي الإسلامي، وأفضل مثال على ذلك كتابها «حريم النبي»، الكتاب الرائد الذي تجاوز ما تعوّده المدافعون عن قضايا المرأة، من الاعتماد فقط على المواثيق الدولية، بل رجعت إلى متون التراث لتبيّن كيف عملت الأهواء الذكورية والملابسات الظرفية على صياغة الفقهاء أحكامَهم، فأصبح ما كان ظرفياً في البداية ثابتاً قطعياً. من أجمل ما قالته في مقابلة تلفزيونية قبل عام هو بوحها بشغفها القديم بالتصوف، شغف رافقها منذ الطفولة في أجواء فاس العريقة التي كان التصوف مكوناً أساسياً في ثقافتها الشعبية كما العالِمة. عشقت ابن عربي ليس فقط لكتاباته الصوفية الرائعة، بل لأنه مجّد الأنثى، وأحبت ابن رشد الذي قال ما لم يقله أحد من معاصريه أو السابقين عليه، من أن أقدار النساء ليست دون أقدار الرجال. تحكي في كتابها «أحلام النساء» ما عاصرته في طفولتها من بوادر انعتاق النساء، بوادر تبدو عادية الآن وما كانت كذلك: ذهاب النساء إلى السينما، تمدرس الفتيات، إسقاط الحجاب والنقاب... كان الملك محمد الخامس رائداً مِقداماً حين سمح لابنته الأميرة عائشة بأن تلقي خطاباً أمام الجماهير سافرة الوجه من دون حجاب. كان ذلك عام 1947 في مدينة طنجة، وقد شن الفقهاء الرجعيون بإيعاز من السلطة الاستعمارية حملة مسعورة على الملك، لكن قاطرة انعتاق المرأة أقلعت بإصرار. فاطمة المرنيسي سيدة لا تُضاهى، دافعت عن قضايا عويصة شائكة بروح من السماحة والرحابة. تقول كلمتها وتمشي. تترفع عن الإسفاف والمهاترات. برهانها كتبها الواسعة الانتشار والمترجمة إلى العديد من اللغات. وداعاً فاطمة، يا فخر النساء.