يَنشز المشهد الافتتاحي لجديد المخرج المغربي الشاب هشام العسري «جَوِّعْ كلبك» عن عوالم ولغة المخرج السينمائية الخاصة. العسري الذي أكد مراراً أنه غير معنيّ او مُهتم بنقل الواقع الى أفلامه او بالمقاربات التي تقترب من التوثيق مؤكداً عملياً أن ما يثيره إنما هو الهجاء الثقيل المُغلف بالعنف، يبدأ فيلمه الجديد هذا بسيدة مغربية تشكو على الطريق سوء الأحوال في حياتها. يبدو المشهد كأنه مقتطع من تغطيات التلفزيون او من أفلام تسجيلية كسولة. تستمر الشكوى المرّة لتلك السيدة لدقائق، وتنهيها بعبارة تهيج أسئلة وسخرية، لتُعيد المشهد الى مساره المنتظر وتوطئ لفيلم لا يقل هجاءً عن أفلام المخرج السابقة. في نهاية الفيلم، سيعود المخرج الى مشهد البداية نفسه، ليعيد تفكيكيه مرة اخرى، في فعل يبدو في جزء منه انتقاماً من صور نمطية ساعد التلفزيون والسينما على تكريسها، واستكمالاً لما بدأه في فيلمه «هُمّ الكلاب» (2013) بالهزء من الواقع الإعلامي السائد المهترئ. علاقة مع التاريخ يدور الفيلم الجديد الذي عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان تورنتو السينمائي وكحال فيلمي المخرج: «النهاية» (2011) و»هُمّ الكلاب»، حول علاقة مغاربة بالتاريخ الحديث لبلدهم، والتركات النفسيّة المتواصلة لأحداث الثمانينات السياسية في المغرب. في «هُمّ الكلاب» يفرج عن المعتقل السابق في أحداث عام 1981 بعد ثلاثين عاماً في السجن، ليخرج الى عالم قديم/ جديد تهب عليه رياح تغيير مختلفة. في «جَوِّعْ كلبك»، هناك مدير الجهاز الأمني لتلك الحقبة الذي يستعد لرواية حكايته كلها لمخرجة ودعت السينما وتعمل في التلفزيون منذ سنوات. لن نسمع هذه الحكاية، لأن العسري الذي كتب السيناريو أيضاً، غير مهتم كثيراً بتفاصيلها، بقدر ما يلهمه عنفها المُبطن وثقلها النفسيّ ومفاعيلها المتواصلة، ليشيد عالماً سينمائياً خاصاً، ينفذ نفسياً وشكلياً الى «دوائر الجحيم» التي تُطبق على شخصياته، وتحدث عنها رجل الأمن السابق مراراً من دون أن يجرؤ على أن يدخل إليها فعلياً ليبقى على أبوابها. ينقضي الكثير من زمن الفيلم في الإستديو، حيث من المنتظر أن يُدلي رجل الأمن السابق بشهادته. يتحول الإستديو الى مخبر بصريّ للمخرج للتجريب في اللغة السينمائية التي لا يتوقف العسري عن البحث عن تخوم جديدة لها. فالمكان (الإستديو التلفزيوني هنا) هو في الفيلم مصنع للحقائق والأكاذيب التي تعبر عبر بؤرات كاميرات مختلفة، وعلينا كمشاهدين أن نجد طريقنا في متاهات الصور المركبة. لا تبدو الشخصيات المقدمة ومنها شخصية البطل المهزوم نفسه، وكأنها ترميز لواقع فعليّ، بل أقرب الى تكثيف للحظات وجود مجردة. هناك علاقة قديمة تربط بين رجل الأمن والمخرجة، وهذه يتم استعادتها على وقع التحولات الحالية الكبيرة والسقوط الفردي والعام. يسير الفيلم نحو لحظة الكشف الكبيرة التي تتضمنها شهادة رجل الأمن السابق. لكن المخرج سيغلف هذه اللحظة بالهزيمة، كحال رجل الأمن نفسه، الذي يعرف أن زمنه انقضى رغم أن العالم من حوله لم يتبدل الا قليلاً. سخرية معمّمة لا يهدأ الفيلم الجديد للحظة واحدة، فيسخر من الجميع، ويقلب كادراته أحياناً ويثوّرها باستمرار. يبدأ بشخصيات معينة ثم يودّعها فيما يعود بعضها ليشكل جزءاً من المشهد العام. يربط العسري أحداث فيلمه بما يجري في المنطقة في زمن «الربيع العربي»، في ليبيا تحديداً، التي تنقل نشرات الأخبار في التلفزيون انزلاقها الى العنف. يُركب المخرج صوراً إرشيفية من التاريخ العربي المعاصر ويقدمها في كولاجات جريئة توازي المضامين التي تربط السياسي بالشخصي التي تتركز عليها أفلامه. بعد «البحر من ورائكم» (2014)، الذي شكل وقتها ذروة ما وصل اليه العسري على صعيد التجريب الشكليّ والأسلوبي، يكاد «جَوِّعْ كلبك»، أن يكون فيلماً تقليدياً مقارنة بالفيلم السابق. بخاصة أن المخرج تخلى في الفيلم الجديد عن الأبيض والأسود، وهو الخيار البصري الذي بدا مناسباً للغة السينمائية والمضامين والموتيفات الخاصة التي تقوم عليها أعمال هذا المخرج المغربي. ذلك أن الفيلم الجديد تعثر حتى وجد التوازن اللوني المناسب لمناخات فيلمه، والذي ساعد الإستديو السينمائي بما يشكله من فضاء خادع ومخاتل على توفيره. لا تنشغل أفلام العسري بالحكايات الواضحة. لكنها تحافظ دائماً على مسار سردي ما. يمنعها من الضياع تماماً في تيه الصور الصادمة غير المترابطة، وكما يمكن أن تبدو للوهلة الاولى للبعض. كما يختلف توزيع الاهتمام الذي تحصل عليه الشخصيات في سينما المخرج. فلا فوارق واضحة بين الشخصيات الرئيسية والثانوية، كل شخصية تمر تحمل قيمتها الرمزية وحضورها لا يمر من دون أن يثير الجدل والقلق والتوجس. شخصيات المخرج الأثيرة، هم المهمشون من قاع المجتمع بما تتضمنه حياتهم من عنف يصل الى الوحشية، لكنه وكما تبين من هذا الفيلم، قادر أيضاً على تطوير شخصيات رئيسية ناضجة، تغوي المشاهد بملاحقتها، لكنها لا تمنح أسرارها بسهولة، اذ تأتي من المجهول، وتختفي من دون تمهيد مخلّفة الكثير من الغموض. يُواصل المخرج في جديده تكريس فرادة منجزه السينمائي الذي ليس له مثيل في السينما التي تنتج في الشرق الأوسط حالياً، والذي عززته وفرة إنتاجية لافتة ( فيلم كل عام تقريباً منذ عام 2013). هذا المنجز الخاص يُلهمه التاريخ والحاضر ويغذيه الغضب وواجهته الهجاء. سينما العسري متمردة تماماً على قواعد السرد والقصة، جريئة الى حدود الإرباك والإزعاج. هو حكواتي الكوابيس، شخصياته تطل من وراء عدسات مُعتمة. آتية من قاع المجتمع بماضٍ يحيطه الالتباس والقتامة. لا يكف المخرج عن السخرية ومَدّ لسانه. كثيراً ما يستعين بالإشارات الواضحة لتحقيق هذا المقصد: كالأصابع الوسطى المرفوعة مطبوعة على ملابس بعض الشخصيات. وغالباً عبر أفعالها المخالفة، التي تدفع إليها عندما تعدم طريقاً آخر للتعايش مع هذا العالم، فتواجهه بالشراسة ذاتها التي جبلت عليها.