تبدو الانتخابات عملية شاقة في معظم الدول العربية، لما تنطوي عليه من خلافات وتراشقات بين مكونات الطبقة السياسية. وتزداد هذه المعادلة صعوبة في بلد مثل السودان، حافل بمشكلات اقتصادية ومليء بتوترات اجتماعية وعلى صفيح ساخن من التعقيدات الحزبية. وأكثرية مواطنيه من مدمني السياسة وألاعيبها. فهي الخبز اليومي للجميع، من حكام ومحكومين، مؤيدين ومعارضين. لذلك عندما حان الحديث عن الانتخابات، ازدادت بورصة الأحزاب والسياسيين رواجاً. وأخذت قوى كثيرة تتعامل مع الموضوع باهتمام. فقد تحددت الفترة من 11 إلى 13 نيسان (أبريل) 2010 لإجراء أول انتخابات تعددية منذ عام 1986. وأصبح على الأحزاب السودانية، قديمها وحديثها، النزول مباشرة إلى ميدان المنافسة السياسية. باعتبار أن هذه الانتخابات أهم اختبار قدرات لمعرفة الأوزان النسبية لكل حزب. وربما تكون الانتخابات بوابة لإزاحة حزب المؤتمر الوطني من السلطة بطريقة سلمية، بعد أن قبض على مفاتيحها منذ أكثر من عقدين. كانت هذه أحد الأمنيات الأساسية لإعلان عدد كبير من الأحزاب السودانية دخول الانتخابات، التي ستجرى على ست مستويات، الرئاسة وممثلي المجلس الوطني (البرلمان المركزي) وحكام الولايات ورئاسة حكومة الجنوب وأعضاء البرلمان فيه. وبدأت الاستعدادات تسير بطريقة سريعة حيناً وبطيئة في معظم الأحيان داخل القوى الحزبية. حيث أشارت تطورات كثيرة على الساحة السودانية إلى التريث وعدم الإفراط في التفاؤل بالتغيير من طريق صندوق الانتخابات، فكل الخطوات التي اتخذها حزب المؤتمر الوطني دعت الى التشاؤم. ولم يتم إغلاق أي من الملفات والقضايا الخلافية بصورة سلمية، بل جرى الإمعان في تكريس الهواجس السياسية وزيادة مساحة المخاوف الإجرائية. على هذه القاعدة يمكن رصد مجموعة من الشواهد التي عززت شكوك كثير من القوى السودانية في العملية الانتخابية، أبرزها، الجدل الذي دار حول نتائج الإحصاء السكاني والذي أشرفت عليه الحكومة السودانية. وجاء أقل من توقعات دوائر كثيرة، بخصوص أعداد المواطنين في عدد من الأقاليم، خصوصاً في الجنوب والغرب. وتم تفسير ما ظهر من خلل في الإحصاء ونسب توزيع السكان على أنه اتجاه مسبق للتلاعب في العملية الانتخابية وسوء قصد من قبل الحزب الحاكم لتوظيف النتائج خدمة لأهدافه البعيدة وتحقيقاً لأغراض أعضائه القريبة. وعلى رغم صخب الجدل والنقاش وكثافة الأخذ والرد، إلا أن حزب المؤتمر الوطني تمسك برؤيته المعلنة للإحصاء بكل الثقوب التي حفل بها والعيوب التي صاحبت عملية التسجيل وإعلان النتائج. الأمر الذي كان بمثابة أول مسمار حقيقي يدق في نعش الانتخابات. وجاء المسمار الثاني بسبب اعتراض أحزاب المعارضة على أداء المفوضية القومية للانتخابات واتهامها بالعمل لمصلحة المؤتمر الوطني ومرشحيه، مع أنها هيئة وصفت بالاستقلال وأنشئت بالتوافق بين الأحزاب السودانية للإشراف على العملية الانتخابية برمتها. بالتالي لم تحظ معظم الإجراءات التي اتخذتها بالقبول من جانب قوى المعارضة. في هذه اللحظة، احتدم الجدل بين رؤيتين أساسيتين في صفوف المعارضة: الأولى، اتجهت نحو إعلان المقاطعة الفورية، لأن كل المقدمات حملت عناوين سلبية وأشارت إلى عيوب هيكلية ستصاحب العملية الانتخابية، من المتوقع أن تؤثر بقوة على النتائج النهائية. والثانية، فضلت التعامل مع الحدث والخروج من شرنقة العزوف عن المشاركة السياسية، مع تسجيل موقف بالنقاط المطلوب تصويب المسارات فيها. وبين هاتين الرؤيتين ظهرت رؤية ثالثة طالبت بالتأجيل إلى حين تصفية جزء معتبر من القضايا الخلافية وتسوية بعض الأزمات الساخنة، خصوصاً دارفور التي بدا أن أجزاء كبيرة في الإقليم لن تكون مهيأة لإجراء انتخابات في أراضيها. وبسبب اختلاف حسابات كل فريق وتباعد مسافات كل حزب، مشت غالبية الخطوات كما رسمها المؤتمر الوطني، مع تعديلات طفيفة هنا وتحسينات بسيطة هناك، حتى يتسنى الإيحاء بتخفيف حدة الصلف في الإجراءات. قبلت الأحزاب السودانية التعايش مع واقع حافل بالتعقيدات الإدارية والمرارات السياسية، على أمل أن تتمكن من توحيد صفوفها، لتكون عنصر ضغط قوي على حزب المؤتمر الوطني. وتجبره على الاستجابة لتعديل التصرفات غير المتوازنة عند إجراء العملية الانتخابية. وهي على يقين من البداية أن النظام السوداني يواجه تحديات صعبة في الداخل والخارج، قد تجبره على عدم الإصرار في ممانعة جزء كبير من مطالبها السياسية. وكانت إحدى ملامح ضعفها وتشتتها عدم القدرة على التوافق والالتفاف حول مرشح رئاسي واحد ينافس عمر البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني، بل قامت أحزاب، الأمة القومي والشيوعي بترشيح رئيس كل منهما (الصادق المهدي ومحمد إبراهيم نقد). واختار حزب المؤتمر الشعبي مرشحاً له جذور جنوبية هو عبدالله دينق نيال. ورشح الحزب الاتحادي حاتم السر. وقامت الحركة الشعبية بترشيح ياسر عرمان. حتى وصل عدد المرشحين الى منصب الرئيس إلى 11 مرشحاً من أحزاب وقوى مختلفة. كل منهم دخل الحلبة وهو يراهن على تحقيق مكاسب حزبية وشخصية بصورة أساسية، أو شارك كديكور من باب إثبات الوجود. الأمر الذي أوحى ظاهرياً لكثير من المراقبين أن هناك منافسة انتخابية حامية. من جهة ثانية، أخفقت المعارضة في كسب تعاطف جهات دولية مؤثرة، كوسيلة للضغط على الخرطوم وحضها على الالتزام بدرجة عالية من النزاهة والشفافية. واكتفى المجتمع الدولي بإرسال وفود شكلية للإشراف على العملية الانتخابية، من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، فضلاً عن ممثلين من حوالي عشر دول مختلفة. وهو ما أفقد المعارضة واحدة من أوراق المناورة السياسية. وجعلها قليلة الحيلة أمام التصورات التكتيكية لحزب المؤتمر الوطني. فهي عاجزة عن الضغط بقوة عليه للحصول على تنازلات في مجال الحريات وتعديل بعض القوانين السياسية. وفشلت في تكوين رأي عام دولي مؤيد لمطالبها، في شأن إدخال إصلاحات حقيقية توفر بيئة مواتية لإجراء انتخابات نزيهة. إذا كانت أسباب العجز مفهومة في إطار الجمود الذي تعاني منه معظم القوى التقليدية، فإن دوافع التراخي الدولي محيرة. ففي الوقت الذي يتعرض رأس النظام السوداني عمر البشير لتهديد مقصلة المحكمة الجنائية الدولية، نرى ارتفاعاً في سقف ليونة عدد كبير من الأطراف الدولية في التعامل مع العملية الانتخابية. نعم ظهرت انتقادات من بعض مؤسسات المجتمع المدني، لكنها لم تكن ضاغطة بدرجة كافية، أو حتى توحي بالجدية في الاستمرار وعدم التقاعس في الدفاع عن حقوق الإنسان في السودان. وعلى العكس جاءت تطمينات من جهات خارجية أشارت إلى «حيادية» بعض الخطوات الرسمية. لم يكن التجاوب الخارجي مع المعارضة بدرجة كافية له علاقة بمبادئ أو شعارات إنسانية، لكنه على صلة وثيقة بسلسلة من المصالح السياسية، فرضت نفسها في ضرورة تخفيف قبضة الضغوط الخارجية في الوقت الراهن. وأهمها، الرغبة الجامحة لدى قوى دولية في استكمال الفترة الانتقالية بسلام، حتى يتسنى إجراء الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان في عام 2011. بمعنى أن ضمان تنفيذ اتفاق نيفاشا حرفياً كان عنصراً مهماً في عدم ارتفاع وتيرة الضغوط الخارجية، خصوصاً الأميركية. ومن يدقق النظر في تحركات وتصرفات واشنطن، سواء عبر مبعوثها الخاص سكوت غرايشن أو غيره من أعضاء إدارة أوباما سيجدها كانت منصبة أصلاً على رعاية نيفاشا ومنع أي مؤثرات تقوده للانهيار. وهذا العامل أيضاً جعل ولاءات الحركة الشعبية ممزقة بين قيادتها للمعارضة السودانية، بعد مؤتمر جوبا في أيلول (سبتمبر) الماضي، وبين تهدئة الأجواء كلما وصلت إلى ذروة خلافها مع حزب المؤتمر الوطني. فقد كانت الرغبة في تمرير الفترة الانتقالية وعدم الصدام مع الحكومة المركزية كابحاً لكثير من خطوات الحركة الشعبية لرفض الانتخابات. وحتى عندما لوح 17 حزباً سياسياً حملوا اسم «تحالف الإجماع الوطني» بمقاطعة الانتخابات أخيراً، لم تكن الحركة من الموقعين على هذا الإعلان وساقت أسباباً واهية لتبرير موقفها. الواضح أن منهج الضغوط السياسية والعقوبات الدولية لم يحقق أهدافه في أجندة بعض القوى الخارجية. لذلك مال الاتجاه نحو محاولة استيعاب النظام السوداني، عبر تشجيعه على المضي قدماً في العملية الانتخابية، أي التكيف مع مفرداته الحالية، كمدخل لإيجاد أمر واقع يفسح المجال لتغيير عدد من أدبياته أو التمهيد لإعادة رسم خريطة السودان السياسية. وربما تكون الانتخابات المقبلة هي حصان طروادة للوصول إلى هذا الهدف في الجنوب وغيره من أقاليم السودان، لأن المواجهة المفتوحة ستقود إلى خلط أوراق كثيرة. في حين تضمن التهدئة تراجع فرص التوتر وتمرير مخطط انفصال الجنوب بسلام. وتفتح الباب للحديث عن تسوية موازية لأزمة في حجم وعمق دارفور. من هنا يعتبر الربط بين تزامن الانتخابات وانطلاق قطار المحادثات بين الحكومة ومتمردي دارفور منطقياً. بدليل الدعم الإقليمي والغطاء الدولي لمفاوضات الدوحة وانجمينا. وكانت المصالحة المفاجئة بين السودان وتشاد مقدمة طبيعية لانطلاق قطار المحادثات، الذي تحرك في الوقت الذي وصلت الأوضاع في دارفور إلى ما يشبه الانسداد. ولكل طرف دوافع للحاق بهذا القطار ومبررات لتأييد انطلاقه حالياً. فالحكومة تريد إثبات حسن نيتها وإخلاء ساحتها من الاتهامات التي توجه إليها في شأن استمرار أزمة دارفور وتسعى أيضاً إلى تخفيف المنغصات التي تشتت الانتباه قبيل الانتخابات وتحاول إجراء عملية انتخابية متقنة وخالية من شوائب التزوير الفاضح. كما أن فصائل المتمردين الذين طالبوا بتأجيل الانتخابات، حتى تسوية الأزمة في الإقليم، لا يريدون أن يكونوا بعيدين من أي طبخة سياسية تناقش مستقبل دارفور. على ضوء هذه المعطيات تتضافر مجموعة من المعالم تجعل من الانتخابات المقبلة هي أسلم طريق للسودان في الوقت الراهن. فالإلغاء، وهو غير وارد، يمكن أن يدخل البلاد في دوامة عنيفة. ومقاطعة أحزاب المعارضة لن تغير في الأمر شيئاً، لأن هناك شبكة وطيدة من المصالح، نسجتها أطراف مؤثرة ومتعددة، محلية وخارجية، لديها رغبة كبيرة في إتمامها بأكبر درجة من الهدوء والاستقرار، للوفاء بجملة من الاستحقاقات الفاصلة التي يصعب التضحية بها. كما أن حزب المؤتمر الوطني تمكن من تثبيت أقدامه. ومن يحاول اقتلاعها الآن سيواجه بعقبات مركبة، أو عليه أن يتحمل ما يترتب على ذلك من تداعيات تهدد مستقبل السودان. وسيكون لإجراءات وآليات الانتخابات حديث آخر. * كاتب مصري.