«حسناء» جديدة شقت طريقها أخيراً إلى ساحات الجهاد وشكلت إحدى علاماته الفارقة إسلامياً ودولياً. أميركية شقراء، بعينين زرقاوين في منتصف الأربعينات، كما وصفتها الصحافة الاميركية والمنتديات الالكترونية، أوقفت في مدينة فيلادلفيا بتهم تتعلق ب «الإرهاب» في تشرين الاول (اكتوبر) 2009، وبقي ملفها طي الكتمان لدى الأجهزة الأمنية. ومنذ الكشف عن قضيتها قبل أسبوعين تقريباً أصبحت تلك المرأة محور اهتمام وسائل الإعلام ودارسي الظاهرة وأجهزة مكافحة الإرهاب على السواء فتحولت خبراً رئيساً على معظم الشاشات العالمية التي عرضت صورها قبل الحجاب وبعده، لتلحق بذلك ب «الحسناء» الاولى البلجيكية مورييل ديغوك التي فجرت نفسها في بغداد عام 2005 وأثارت موجة مشابهة من الحيرة والخوف في آن. وبتجاوز سريع لمعايير الحسن والجمال الغربيين من شعر اشقر وقوام ممشوق وعيون سماوية تتيح لصاحبتها التسلل إلى أي مكان من دون إثارة اي شبهات أمنية، ثمة قواسم مشتركة كثيرة تجمع بين مورييل وشبيهتها الاميركية كولين لاروز، الملقبة ب «جهاد جاين» حيناً و «فاطمة لاروز» حيناً آخر. وليس أقل تلك النقاط المشتركة وأكثرها بداهة إنهما من الجنس اللطيف. كولين، كما مورييل متحدرة من خلفية مسيحية، اعتنقت الإسلام على يد «زوج» مهاجر يجمع بين التشدد الديني والفشل الاجتماعي والاقتصادي. وقبل ظهورهما الفجائي المرتبط بأعمال إرهابية، لم يعرف عن أي من مورييل أو كولين أي تميز دراسي أو انجاز مهني، ولم يلحظ مجتمعهما الضيق ومحيطهما السكني وجودهما. بل تخبطت الاثنتان بين زيجات مبكرة وفاشلة تبعتها فترات من الإسراف في شرب الخمر، ترافقت مع أوضاع اقتصادية لامست الحضيض أحياناً. حتى نقلت وسائل الإعلام إن كولين لاروز سبق وتعرضت للملاحقة القانونية لإصدارها شيكات مصرفية من دون رصيد... بمبلغ لا يتجاوز 300 دولار، لمحل بقالة ومطعم «بيتزا هات» للوجبات السريعة! وعلى رغم اختلاف بلد المنشأ لكل منهما بين بلجيكا والولايات المتحدة، إلا ان أزمات بيئة الطبقات العاملة البيضاء التي تنمو على ضفاف المدن، تفرز مهمشين متشابهين إلى حد بعيد. وليس أدل على ذلك من تعبير شعبي أميركي لوصف تلك الطبقات ب «مستوعبات الحثالة البيضاء»، في إشارة إلى بدايات تشكل تلك الفئة عبر السكن في منازل متنقلة اشبه بالمستوعبات كانت ترصف قرب المصانع في بؤر مهجورة أو أراض غير مستثمرة محاذية للمدن. ومن دون أن ينسحب هذا التشبيه بحرفيته على ظروف حياة مورييل أو كولين، يبقى أنه يمثل الى درجة كبيرة خلفيتهما الاجتماعية والاقتصادية التي بحثت كل منهما عن مخارج لها. وجاء اسلام الاولى ملجأ نفسياً وجسدياً أبعدها عن معاقرة الخمرة والمخدرات وحياة الصخب التي كانت تتخبط فيها، فيما ساهم تدين الثانية في إنقاذها من ميول انتحارية سبق واختبرتها في نفسها ونجت منها من غير أن تشفى بالضرورة. وللمفارقة فإن مورييل هي التي نفذت عملية انتحارية وقضت فيها، فيما كولين لم تكن نذرت نفسها للشهادة بعد حين القي القبض عليها فأخرت تلك الخطوة من دون أن تستبعدها يوماً، وسخرت جهودها للتجنيد على الشبكة الالكترونية. والواقع أنه على رغم التشابه الكبير بين المرأتين، إلا ان السنوات الخمس التي تفصل بينهما كوجهين للجهاد الأنثوي الغربي لم تمر عبثاً. ذاك ان المتحول في تنظيمات «الجهاد» يغلب على الثابت وكفة البراغماتية غالباً ما ترجح على حساب كفة الجمود والتصلب. فمنذ هجمات 11 ايلول (سبتمبر) أثبتت المجموعات «الجهادية» بمختلف أطيافها قدرة هائلة على التأقلم مع الظروف المختلفة التي فرضتها عليها الحرب على الارهاب كإغلاق عدد من معسكرات التدريب، وبرهنت عن قابلية لتشرب مفاهيم العصر وتقنياته وتطويعها للاستفادة منها وأولاها ثورة الانترنت. ومورييل التي نفذت عمليتها في 2005، تنتمي بهذا المعنى إلى المدرسة التقليدية التي رسمت لها خطاً مستقيماً يقضي بأن تلف خصرها بحزام ناسف وتفجر نفسها مستعينة بملامحها الاوروبية وعزيمتها الدينية. أما كولين، فهي تنتمي إلى مدرسة أكثر احترافاً وتعقيداً، ترسخت معالمها مع ثورة الانترنت. فقادتها تلك المدرسة إلى «الجهاد» من باب واسع وغير تقليدي. إنه باب دوار تلتف اقسامه حول محور ثابت لتؤدي كلها في النهاية إلى فضاء مشترك. لذا من جند كولين منحها ادواراً متعددة ليستثمرها حتى الرمق الأخير قبل أن يرسلها في مهمة انتحارية إذا دعت الحاجة. وتراوحت المهام الموكلة إليها بين تجنيد شبان وشابات على شبكة الانترنت بهدف ضمهم إلى مجموعات إرهابية، وتنسيق عمل مجموعات أخرى لتنفيذ «مهمات موضعية» مثل محاولة اغتيال رسام كاريكاتور دنماركي، وصولاً يوماً ما وبعد أن تكون قد أثبتت جدارتها إلى الشهادة كهدف أسمى. وهو في مطلق الأحوال ما أقسمت على فعله منذ 2008. فقد كتبت على شبكة الانترنت تقول إنها «متعطشة للدفاع عن المسلمين»، ثم وبعد التخطيط لمهمة اغتيال الرسام اقسمت أن تجعل منها «هدفاً تنفذه مهما كلف الأمر أو على الاقل ستموت وهي تحاول». هذه الاعترافات موقعة باسم «جهاد جاين» فيما بعض المراسلات الأخرى تم باسم «حركي» آخر هو «فاطمة لاروز» وفي ذلك بعض «حذلقة» المدرسة التي تنتمي اليها هذه الجهادية الجديدة. ف «جهاد جاين» تفتح على 4 فئات من «القاعديين» الغربيين لكل منها نجومها ومريدوها. هي تجمع بين كونها امرأة، ومعتنقة جديدة للديانة الإسلامية، وناشطة على شبكة الانترنت ومجندة «محلية المنشأ» (أميركياً). هذه الهويات المتضافرة في شخص واحد أثارت أكثر من شبهة وحركت مخاوف كثيرة لدى الأجهزة الأمنية حيال أعداد متزايدة من معتنقي الإسلام الذين قد يجنحون إلى خيارات قصوى. ولكن لا يمكن توجيه تهم إليهم بلا مبرر واضح. أما في ما يتعلق ب «جهاد جاين» فالهوية الراجحة لديها هي بالدرجة الأولى كونها امرأة جندت على شبكة الانترنت سعت بدورها إلى تجنيد نساء أخريات بالطريقة نفسها. وفيما سهلت الشبكة العنكبوتية تواصل الأشخاص وقربت المسافات بينهم ولعبت دوراً أساسياً في وصل قيادات «القاعدة» بقاعدتها، كذلك رفعت تلك المساحة الافتراضية حواجز الفصل بين الجنسين التي تحكم علاقات المسلمين بالمسلمات. ففي حين تفرض المساجد ومراكز اللقاءات الواقعية فصلاً صارماً بين الذكور والإناث، تقدم غرف الدردشة أمكنة لقاء لا مصافحة فيها ولا حاجة لإشاحة النظر ولا حتى سماع صوت أنثوي... إنه مجرد تبادل أفكار خطي ليس ما يحرّمه شرعاً. ونظراً إلى أن الشابات المسلمات اللواتي يحترفن استخدام الكومبيوتر والتواصل عبر الانترنت يتمتعن بدرجة من المعرفة والتطلب ولا ينتمين إلى طبقات فقيرة أو معدمة، فإنهن أيضاً لا يرضين دائماً بأدوار ثانوية لا تشرك المرأة في العمل النضالي. فللمرأة منهن رأي في السياسة والشؤون العامة تريد تجسيده في النشاط الميداني، ودليلهن إلى ذلك «بطلات» من ايام الرسول والصحابة، مع العلم أن بعض الداعيات الناشطات يدفعن ذكور العائلة إلى الميدان في حال تعذر عليهن ذلك. والواقع أن العين التي انفتحت فجأة على دور النساء في الحركات الاسلامية الجهادية خصوصاً مع قضية البلجيكية مورييل ديغوك، أغفلت سجلاً طويلاً من انخراط «الجنس اللطيف» في الأعمال الإرهابية أو «العنف السياسي». وصحيح أن الحركات السلفية الجهادية منقسمة حيال تنفيذ النساء عمليات انتحارية، إلا أن المسألة حسمت تقريباً لصالح المؤيدين لها، خصوصاً بعد التضييق على ناشطين كثر وقتل آخرين في المعارك وصعود نجم ابو مصعب الزرقاوي في العراق وهو أول المؤيدين لإرسال النساء في عمليات انتحارية ما انعكس عملياً في ارتفاع عدد الانتحاريات في العراق. ويضاف إلى ذلك كله عنصر لا يقل أهمية في شحذ همم النساء على المشاركة، هو تنفيذ عدد من هذه العمليات في السنوات الأخيرة على يد شابات فلسطينيات ينتمين إلى تنظيمات إسلامية وليست علمانية أو قومية كما في منتصف السبعينات. وبعكس ما يشاع عن أن النساء يغلّبن الخيارات السلمية على الكفاح المسلح، شهد التاريخ الحديث مشاركات نسائية كثيرة في التنظيمات الثورية، لا تقل دموية عن مشاركات رفاقهن الذكور، لعل أبرزها مقاتلات جيش تحرير إرلندا المتحدرات من بيئة كاثوليكية محافظة، تضع النساء في مرتبة ثانية تقضي بتقديم الدعم للرجال ومساندتهم في عملهم النضالي وليس الانخراط معهم جنباً إلى جنب في القتال. لكن ذلك لم يمنع الارلنديات من خوض معركة للمطالبة ب «المساواة» مع الرجال وعملياً تفوقن بها عليهم. كذلك الأمر بالنسبة الى «الأرامل السود» الشيشانيات اللواتي لم يبق لهن إخوة وأزواج وابناء يقدمن لهم الدعم فحملن السلاح بأيديهن وذهبن لتنفيذ عمليات انتحارية أشهرها عملية مسرح موسكو. وفي هذا السياق يمكن أيضاً تقديم أمثلة كثيرة من مقاتلات «نمور التاميل» في سريلانكا اللواتي يشكلن 30 في المئة من فوج الانتحاريين في التنظيم، أو الأحزاب القومية واليسارية العربية التي افتتحت هذا التقليد في جنوب لبنان مطلع الثمانينات مع سناء محيدلي، وصولاً إلى نساء القاعدة اليوم بزعامة شخصية لا تزال غامضة هي «ام أسامة» التي توعدت الغرب بأن ينسيه الآتي هجمات 11 أيلول. لكن الفضل (إن كان ثمة فضل) في «الإرهاب النسائي» لا يعود إلى اي من تلك النماذج الحديثة، بل يرجع إلى القرن التاسع عشر حين لعبت المرأة دوراً بارزاً في حركة الفوضويين الروس التي أطلقت على نفسها تسمية «نارودنايا فوليا» (إرادة الشعب). فكانت فيرا سازوليك، وراء انعطاف الحركة من النشاط المدني السلمي إلى العمل العنفي بعدما ثارت ضد قرار حاكم سان بطرسبرغ جلد معتقل سياسي وقررت اغتياله. وفي أول استخدام لمصطلح «إرهاب» بمعناه السياسي وبعدما أطلقت فيرا النار على الحاكم ووقفت تنتظر اعتقالها وسط دهشة رجال الشرطة، أعلنت «أنا إرهابية ولست قاتلة». هذه الجملة منحت فيرا شهرة وتضامناً واسعين فاعتمد التنظيم بعدها أعمال العنف وسيلة لإسماع صوته. النساء إذاً، لسن حديثات العهد في العمل القتالي وإن بدا أن نشاطهن ينضوي تحت مظلة ذكورية تحفظ للرجل مرتبة تنظيمية أعلى في هيكلية المجموعة. وذلك يصح كثيراً على نساء التنظيمات الإسلامية اللواتي نشأن في بيئات بطريركية شديدة التمييز بين الرجل والمرأة ولكنه لا يصح بالضرورة على النساء الغربيات اللواتي استهوتهن تلك التنظيمات لدوافع مختلفة. فإذا كان شعار النساء الإسلاميات «حجابي قوتي» يسمح لهن بالانخراط في الحيز العام، فإن «جهاد جاين» لم تذهب إلى الإسلام بحثاً عن تحقيق مكاسب اجتماعية أو سياسية. فهي حين كانت كولين لاروز، تمتعت بكامل حقوق المواطنة الأميركية، والارجح أن قضية المساواة مع الرجل لم تطرح عليها. لذا عندما استهواها اعتناق ديانة جديدة هي الإسلام، بحثت فيها عن الخيارات القصوى والقضايا الكبيرة التي تفتقر هي إليها كأميركية عادية، من قبيل «نصرة المظلومين (المسلمين في هذه الحالة) ورفع الظلم عنهم» كما كتبت بنفسها. وبهذا المعنى لا يفيد القول إن «جهاد جاين» أعطيت دوراً ثانوياً لا يرقى إلى مستوى تنفيذ عمليات كبيرة. فهي جاءت بإرثها الغربي لتجند آخرين ريثما تحين ساعتها. وليست تلك مهمة سهلة إذا استعرضنا أسماء المجندين «القاعديين» الجدد. الإضافة الأخرى التي تحملها هذه المرأة هي إرث مسيحي عميق ظهر جلياً في اختيار اسمها الحركي المرتكز على عنصرين هما «جهاد»، ذات البعد الإسلامي و «جاين» المحاربة المسيحية الفرنسية المعروفة بجان دارك أو بمعنى ما «مجاهدة» الديانة المسيحية في عهد الملك شارل السابع. وتحولت جان دارك إلى احد أبرز وجوه مقاومة الاحتلال الإنكليزي في حرب المئة عام بين بريطانيا وفرنسا بعدما تزعمت جيشاً صغيراً ونجحت في رفع الحصار عن مدينة «اورليان» بفضل «وحي الهي» على ما قالت. لكن الكنيسة اتهمتها بالهرطقة وأحرقتها حية وهي في عمر 19، لتعود وتعلنها «شهيدة» وقديسة بعد نحو 25 سنة على موتها. الاسم إذاً وحده «مصيدة» لعقول شبان من خلفيات مسيحية يبحثون عن الشهادة على الطريقة الاسلامية. وإذا كانت جهاد جاين فعلاً بسيطة وساذجة كما قال محامي الدفاع عنها، وأنه «غرر بها» للانضمام إلى شبكات إرهابية، فإن العقل الذي دبر تجنيدها وجعلها طعماً جذاباً لغيرها من الغربيين ليس بريئاً. وأكثر من ذلك فإن الاسم الحركي الآخر «فاطمة لاروز» الذي يعتمد على كنيتها الأصلية لا يمكن إلا ان يحيلنا إلى فاطمة الزهراء! قد تكون «جهاد جاين» فعلاً أميركية ساذجة مغرراً بها، لكنها عن معرفة أو عن جهل باتت من ناشطات الشبكة القاعديات. فاسمها يرد على «لائحة أصدقاء» الداعية الاميركي اليمني الأصل أنور العولقي الذي كان مصدر وحي وتخطيط لكل من نضال حسن وعمر الفاروق. وكان العولقي خصها بالإطراء والمديح في تسجيل صوتي بثته شبكة «سي إن إن» في 19 الجاري، واصفاً إياها ب «شقراء، عيناها زرقاوان، صغيرة الحجم، امرأة في منتصف العمر. لا يمكن ان تكون ابعد عن صفات الارهابي النموذجية»... فهل يصدق العولقي بأن «الجهاد اصبح غربياً مثل كعكة التفاح والشاي الإنكليزي»!