تتصاعد موجات الغضب في الأوساط الشعبية والأوساط الثقافية والعلمية ومعظم النخب المنشغلة بهموم المجتمع المصري والملتزمة بقضاياه الآنية والمستقبلية، بسبب الانفلات الإعلامي الذي بات يهدد منظومة الأمن المجتمعي سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. وقد ألقيت على عاتق الإعلاميين مسؤولية التدهور المتلاحق وإخفاق العسكر ثم «الإخوان» في إدارة شؤون الوطن. والثابت علمياً وموضوعياً أن الإعلام يعكس الواقع المجتمعي ولا يعمل بمعزل عن المنظومة السياسية والاقتصادية ويعد أبرز أضلاع المثلث الذهبي الذي يضم التعليم والثقافة والإعلام. كذلك تعاني الثقافة المصرية بمؤسساتها الرسمية وأجهزتها وروافدها الحكومية وغير الحكومية من الفوضى الإدارية وغياب أدوارها الاجتماعية وعدم استقرار قياداتها الوزارية، فضلاً عن تخبط سياساتها ما أدى إلى فقدان فاعليتها وإهدار الحقوق الثقافية للمجتمع المصري ككل، خصوصاً القطاعات الجماهيرية سواء في الحضر أو الريف. والواقع أن السلطة الحاكمة لم تدرج التعليم والثقافة والإعلام ضمن أولوياتها خلال الفترة التالية لثورة كانون الثاني (يناير) على رغم صدور الكثير من التصريحات والوعود الوردية من الوزراء والقيادات التنفيذية. ولم تشهد مرحلة الحكم الانتقالي الحالية أية محاولات جادة لتغيير هذه المنظومة الثلاثية (التعليم – الثقافة – الإعلام) المتوارثة من نظامي مبارك ومرسي، وقد أثمرت هذه السياسة سلبيات عدة ظهر أبرز تجلياتها في الأداء الإعلامي المنفلت الذي لا تخفى القوى المساندة له والمستفيدة منه، إذ تحول الإعلام المصري إلى ساحة صراع بين سلطة الدولة التي تميزت بالتراخي والتهاون الحكومي إزاء آليات ورموز الفساد الذي ينخر بقسوة في جسد الدولة وبين سلطة رجال الأعمال والقطاع الخاص وشركات الإعلان الذين استفادوا من التهاون الحكومي واقتحموا هذا المجال الحسَّاس، واستولوا على مفاتيحه واحتكروا آلياته المؤثرة في الرأي العام. وكما احتكر كبار التجار سوق السلع الغذائية وتحكموا في غذاء الشعب المصري وأسعاره ومدى صلاحيته، تحكَّم بالمثل رجال الأعمال والقطاع الخاص في الغذاء العقلي والثقافي لهذا الشعب الصبور، ولم يعد الشعب المصري وقياداته السياسية الحاكمة قادرين على تحجيم هذا السُعار والانفلات من جانب أباطرة السوق، فأصبح التعليم سلعة لا يستفيد من آلياتها سوى القادرين اقتصادياً، وكذلك الثقافة التي اقتحمها تجار اللحوم لإنقاذ صناعة السينما والمسرح، على حد زعمهم، ثم اندفع رجال الأعمال وأسسوا قنواتهم الفضائية وصحفهم الخاصة التي لم تلتزم الأصول المهنية والأخلاقية، بل أصبحوا أبواقاً لأباطرة السوق السياسية والاقتصادية والثقافية، وتم إقصاء الحقوق المجتمعية للقطاعات العريضة من الشعب المصري، كما أهدرت منظومة العدالة المجتمعية بجوانبها كافة. وأصبح إعلام رجال الأعمال (الإعلام الخاص) الأكثر انتشاراً وتأثيراً في الرأي العام بعد أن تراجع إعلام الدولة لأسباب كثيرة بعضها تاريخي موروث والآخر نتاج مرحلة ما بعد إطاحة مبارك وبدءاً بمرحلة المجلس العسكري، ثم «الإخوان» وصولاً إلى الحكم الحالي. لقد كسب القطاع الخاص ورجال الأعمال وشركات الإعلان السباق وكان الضحية العقل المصري وحق الجمهور في المعرفة والأمن المجتمعي. حاول الإعلاميون، خصوصاً الصحافيين، القيام بدورهم المتوقع والمطلوب وقاموا بإعداد مشروع لتنظيم هذه المهنة وتطهيرها من الشوائب التي أهدرت أدوارها ولوَّثت سمعتها، لكن عدم اهتمام الدولة بإقرار هذا المشروع في الوقت المناسب أدى إلى تفاقم الأوضاع والمساس بشخصية الحاكم. وإذا كان رجال الأعمال مالكو معظم القنوات الفضائية والمتحكمون في سياساتها وأدائها هم المسؤولين الأساسيين عن الفوضى والانفلات الإعلامي، فإن ذلك لا يعني التقليل من مسؤولية السلطة الحاكمة التي تلكأت في إصدار التشريعات والقوانين الخاصة بتنظيم الإعلام مقروءاً ومسموعاً ومرئياً، على رغم تشكيل لجنة ضمَّت خبراء الإعلام من نقابة الصحافيين والمجلس الأعلى للصحافة وبعض الأساتذة والأكاديميين ونقابة العاملين في الإذاعة والتلفزيون، وقد قاموا بإعداد مشروع قانون لتنظيم الإعلام، وتواكب معه وجود مشروع آخر شبه حكومي قامت بإعداده فئة من الخبراء والممارسين الإعلاميين اختارتهم الحكومة، ولكن، ظلت هذه المشروعات مجمدة ولم تبادر السلطة إلى إقرارها وتفعيلها، ما ترك الساحة الإعلامية خالية أمام الإعلام الخاص فتمادى في مبالغاته وتجاوزاته التي طاولت معظم الممارسات الحكومية والمجتمعية في سياق غير موضوعي يفتقر إلى النزاهة المهنية والأخلاقية ولم يستفد منه سوى رجال الأعمال. وفي إطار هذا السياق المتردي لا يمكن أن نتغافل عن معظم الإعلاميين الذين تم استقطابهم لمصلحة القنوات الفضائية الخاصة بمكافآت خيالية، فضلاً عن الكثير من الدخلاء على مهنة الإعلام والذين ساهموا في إهدار منظومة القيم والأخلاقيات المتعارف عليها في هذه المهنة، والأهم من ذلك إهدار حق الشعب المصري في المعرفة. ولا شك في أن حكومات ما بعد ثورة كانون الثاني تتحمل المسؤولية الكاملة عن المحنة الراهنة للإعلام، ويتمثل ذلك في تساهل هذه الحكومات مع القطاع الخاص بإطلاق عشرات الصحف والقنوات الفضائية من دون التدقيق في مصادر تمويلها وإدارتها، فضلاً عن غياب نقابة للإعلاميين في الإعلام المرئي والمسموع، علاوة على عدم تفعيل مواثيق الشرف الصحافي والإعلامي، وترك إعلام الدولة غارقاً في مشاكله المهنية وديونه المتراكمة، مضافة إليها الضغوط المهنية والإدارية داخل المؤسسات الصحافية وغياب المعايير الموضوعية لقياس الأداء المهني للإعلاميين والصحافيين، وعدم توافر ضمانات ممارسة المهنة من خلال تفعيل التشريعات التي تحقق الحماية المهنية، والتي تنص على ضرورة تيسير الوصول إلى مصادر المعلومات والتزام شرط الضمير عند التعاقد بين الصحافي والمؤسسات الصحافية. وعلى رغم تراكم هذه المشكلات لم تبذل الدولة أية محاولات لتطوير الإعلام وتحويله إلى إعلام للخدمة العامة، بل على العكس حاولت الحكومات على اختلاف توجهاتها السياسية توظيف الإعلام للترويج لسياساتها وخدمة مصالحها، ما أضعف صدقية إعلام الدولة وأدى إلى عجزه عن مواجهة المنافسة مع الإعلام الخاص. وإذا كان الإعلام المصري يعاني حالياً غياب الرؤية، فإن السبب الرئيسي في أزمته الراهنة يُعزى إلى عدم وجود إرادة سياسية للتغيير، كما يثير قضية الانتماء السياسي والاجتماعي للسلطة الحاكمة: هل تنتمي إلى غالبية الشرائح الاجتماعية وتتبنى حقاً مصالح الفئات الكادحة وحقوقها في المجتمع المصري أم تنتمي إلى شريحة ال5 في المئة من الشعب المصري أي محتكري الثروة والنفوذ؟ واستشرافاً للتغيير المتوقع نطرح السيناريوات الآتية: السيناريو المرجعي ويشير إلى استمرار الأوضاع الراهنة في ممارسات المنظومة الثلاثية التعليم والثقافة والإعلام وهذا السيناريو مستبعد بسبب تناقضه مع قوانين التغير والصيرورة، لكنه يقودنا إلى السيناريو التالي الإصلاحي، ويشير إلى احتمال مبادرة السلطة الحاكمة إلى إجراء بعض التعديلات الإصلاحية في القطاعات السياسية والاقتصادية والإعلامية من دون المساس بمصالح رجال الأعمال وامتيازاتهم المتعددة في المجال الاقتصادي مثل استمرار التهرب من الضرائب وتأجيل فتح الملفات الساخنة في الفساد الحكومي والخاص والاكتفاء ببعض الحالات الفردية. ويعد هذا السيناريو أكثر احتمالاً في ضوء إدراكنا قدرات السلطة التنفيذية الراهنة ورؤيتها. أما السيناريو المنشود فهو يشير إلى احتمال بروز إرادة سياسية حقيقية تسعى إلى التغيير وتصحيح المسار السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، الأمر الذي يحتم تفعيل مواد الدستور 68، 70، 71، 72 وسرعة إصدار القوانين والتشريعات الإعلامية والصحافية المعبرة عن دستور 2014. * كاتبة مصرية