لم تتكلّم سارة الجاك عن أعمالها الأدبية، حين التقيناها في بيروت، إنما عن كنوز القصّ والحكي في السودان. تواجه السؤال عن كتاباتها بكلام عن الرواية السودانية وكتّابها. هي تدرك حجم الهوّة بين السودان والدول العربية الأخرى، لذا فإنها تحاول دوماً أن تُضيء على وطنها، فكراً وأدباً. بنبرتها وحماستها وثقافتها، تشعر بأنّ الكاتبة سارة الجاك توجّه دعوة الى القارئ العربي للتعرّف إلى النتاج الأدبي السوداني الذي لا يقتصر كما يعتقد كثر على اسمي الطيب صالح (في الرواية) ومحمد الفيتوري (في الشعر). عن أعمالها الجديدة وروايتها الحائزة «جائزة الطيب صالح» وموقفها الجريء من تقسيم السودان، تحدثت سارة الجاك فكان هذا الحوار: شاركت أخيراً في معرض الخرطوم للكتاب عبر مجموعة قصصية عنوانها «كمبا». ما سرّ اتجاهك نحو القصة القصيرة بعدما أثبت نفسك في الرواية، لا سيما أن الكتّاب يسيرون عادة في اتجاه معاكس، أي من القصة الى الرواية؟ - القصة القصيرة مختبر التجريب الذي أجترح فيه تقنيات تخصّني في الكتابة السردية. أكتبها وأنا أشعر بأنني حرّة طليقة. أشكّلها كطفلة تصيغ صلصالها أو «معجونتها»، كما أني استمتع باقتناص اللحظة وصياغتها وأتحدى بها ذاتي، وهو ما لا توفره الرواية. أنا بدأت مسيرتي الأدبية عبر رواية «المعتقة» ثم أصدرت مجموعة «صلوات خلاسية» قبل أن أكمل بالرواية وأعود أخيراً إلى القصة. وهذا إن دلّ فعلى أن تجربتي تتأرجح منذ بدايتها بين عالمي القصة والرواية، وإن كنت أجد أنّ كتابة القصة أصعب بكثير من كتابة الرواية نظراً الى شروط لصيقة بها كالسرعة والدقة والكثافة وغيرها مما لا تواجهك أثناء الكتابة الروائية. هل ثمة مواضيع أدبية تفترض على كاتبها اتباع هذا النوع الإبداعي أو ذاك، خصوصاً أنّ رواياتك تناقش غالباً قضايا اجتماعية - سياسية بينما تنحو قصصك صوب مواضيع إنسانية - نفسية عميقة؟ - من الصعب أن يدعّي الكاتب بوعيه الحادّ والمطلق في أمور كهذه. العملية الإبداعية تبني نفسها، وهي تسوقك في طريقها الى أمكنة مدهشة تتم فيها تنقيتك من كثير الذي يعلق بك. قد تكتب عن أشياء لم تكن قد فكرت بكتابتها أثناء التخطيط لهذه القصة أو تلك الرواية. ولكن ثمة مواضيع تحتاج إلى مساحة معينة للتعبير عنها، وهي غالباً ترتبط بالشؤون التاريخية والسياسية. عنوان «كمبا» ومحتواها ينبعان من مفردات الثقافة السودانية التي يرى بعضهم أنها تكاد تندثر. فهل تخاطبين القارئ السوداني حصراً في كتاباتك؟ - مفرداتنا السودانية المحلية ليست غريبة عن قرّاء اللغة العربية أينما كانوا. أقول ذلك وإن كنت أوافقك على أنها قد تكون غريبة على الأذن غير السودانية. إنها غابة استوائية جميلة أدعو أن يدخلها كل من لم يدخلها من قبل للتمتع بها والنهل من مشاربها العذبة. قد يجد القارئ فيها «ألف ليلة وليلة» بنكهة سودانية مميزة. يبدو أنّ مجموعتك الجديدة «كمبا» مختلفة عن مجموعتك القصصية الأولى «صلوات خلاسية»، لا سيما عند المقارنة في التقنية السردية بين المجموعتين؟ - كتبت في المجموعة الأولى نصوصاً خلال فترة زمنية متتابعة تدربت فيها على الكتابة القصصية، تعرفت خلالها إلى تقنيات السرد، وصياغة التقنيات المختلفة، فأتت كيفما يشتهي القارئ العادي المتعود على الشكل التقليدي للقصة. أمّا في «كمبا» فالكتابة هي أنضج وأحدث. في روايتك «خيانتئذ» التي فزت عنها بجائزة الطيب صالح في 2012، مناصفةً مع الكاتب عادل سعد، عالجت موضوع «تقسيم السودان»، وكان موقفك نقدياً واضحاً. كيف تقبّل المجتمع موقفك الجريء إزاء قضية راهنة وحساسة كهذه؟ وهل ما زالت المواضيع السياسية من تابوات المجتمع السوداني؟ - لا بدّ من أن يكون للمثقف والمفكر والكاتب والناقد موقفاً من قضايا وطنه المصيرية. كتبت ما يناسب قناعاتي ورؤيتي تجاه وطني. أمّا السياسة فهي كانت وستظلّ تابو في السودان وفي مجمل دولنا العربية. ماذا أضافت لك جائزة تحمل اسم أهم شخصية أدبية في السودان «الطيب صالح»؟ - بمقدار سعادتي بها، أعطتني الجائزة مزيداً من المسؤولية والحذر. وكيف تجدين موقع الرواية السودانية الحديثة في مسألة الجوائز العربية المتكاثرة؟ - يتحسّن موقع الرواية السودانية الآن وباتت تشغل مكانة مرموقة عربياً. أما الأسباب فعدة، منها: اختلاف المصادر التي تستند عليها وتنوعها، وقدرة المشتغلين عليها بغية تقديم إطروحاتهم بالشكل الجاذب المواكب والمتطور. إضافة الى التثاقف الحي الذي يتم بين الروائيين السودانيين وأترابهم من العرب الجادين العاملين على تطوير الرواية المكتوبة بالعربية في شكلها الذي يجب أن تكون عليه. اللافت انتشار الروايات السودانية خلال الفترة الأخيرة، ما دفع بعضهم الى الحديث عن تطور في المشهد الأدبي السوداني فيما يعتبر بعضهم الآخر أنّ الكمية لا تعكس النوعية ولا تزال الرواية السودانية تحتاج الكثير من أجل التقدّم. ما رأيك؟ - لا يتم إزدهار جنس أدبي بانفصال عن محيط الواقع السياسي والإقتصادي والاجتماعي، فحاجة المجتمع هي التي تملي على مكوّنها الثقافي طريقة التعبير عنها. وبما اننا في السودان، بل وفي المنطقة العربية والعالم، نعيش تعقيدات لا يستوعبها أي ماعون من مواعين التعبير الأبداعية غير الرواية، لذلك فإنها تزدهر يوماً تلو يوم. التطور الذي تشهده السودانية ليس تطوراً كمياً فقط، بل نوعي، ولمن يريد التحقق من صحة ما أقول، ما عليه إلا أن يعمل أدواته النقدية على الأعمال المطروحة وسيقف على صحة زعمي في شكل علمي ومنهجي أكثر من الإطلاق المفتوح الذي يضر ولا ينفع. المجتمع السوداني كان حتى قبل فترة وجيزة مجتمعاً شعرياً بينما أخذت الرواية اليوم بالتطور. هل يمكن القول إن الرواية حلّت أخيراً مكان الشعر الطاغي حضوره في السودان؟ - ربما، ولكن اتمنى أن يعود زمان الشعر. فعادة ما يزدهر عند الرخاء وسلاسة الحياة وتسنح له الظروف المحيطة بالتحليق بعيداً في فضاء الإنسانية الرحب اللامحدود. من يعجبك من الكتاب الشباب في السودان؟ - يعجبني الجاد، المجيد، الذي يعي دوره الحقيقي، الذي لا تبهره أضواء الشهرة، ولا تضلله هالات المعجبين ولا يسمع طبل المطبلين. هو الذي يمضي قدماً على درب صعب، فيمشي على جمره ويعلم أن الدرب ما زال طويلاً... هل هناك تعتيم على التجربة الأدبية السودانية، اذ من الصعب أن يثبت الكاتب أو الشاعر السوداني نفسه من دون أن يسافر خارج حدود وطنه أو أن ينشر لدى دور عربية أخرى؟ - ليس تعتيماً، لكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي التي تبعده عن الإنتاج من الأساس. دعك من التواصل مع المحيط الخارجي ومن ثم التعريف بما ينتج، في الوقت الذي خرج الى خارج السودان يجد بعضاً من متسع لترتيب اولوياته ثم التفرغ للابداع وتقديم ذاته كما يجب. بعد «كمبا» هل ثمة مشروع روائي جديد أم قصص قصيرة؟ - أخط أحرفي الأخيرة من روايتي الثالثة «رحم من مسد» التي قد ترى النور قريباً، كما أشارك في ورشة تعمل على تحويل روايتي الثانية «خيانتئذ» الى فيلم روائي مع عدد من المشتغلين المتميزين في هذا المجال، وهي قد وجدت طريقاً للترجمة الى اللغة الفرنسية.