ساقتني المصادفة للاطلاع على أحد المجلدات الصادرة عن مؤتمر مكافحة التطرف الذي عقد برعاية إحدى المؤسسات الرفيعة في عالمنا الإسلامي، وتضمن مساهمات للعديد من العلماء الذين أجهدوا أنفسهم في الدفاع عن الدين والحضارة الإسلامية في وجه هجمات شرسة تزايدت في الآونة الأخيرة، تحت تأثير الصور المخزية التي تبث من عالمنا العربي وتصور جرائم القتل والذبح والبتر والسبي التي تمارسها التنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم «داعش». وإذا كانت صورة الطفل السوري الغريق (إليان) أثرت في مواقف دول وشعوب بأكملها من قضية اللاجئين، وأدت إلى إظهار التعاطف الإنساني على مستوى قطاعات عديدة، بما فيها رموز أوروبية اشتهرت بالتشدد إزاء السماح باستقبال اللاجئين، فحريٌّ بنا في عالمنا الإسلامي أن نتفكر جيداً في تأثير هذه المواد الإعلامية البشعة التي تبث بصورة شبه يومية، على العقل الجمعي لملايين البشر الذين تصدمهم هذه البشاعات، وتجعلهم يربطون بينها وبين عالمنا الإسلامي، على رغم أن جُلَّ ضحايا هذه التنظيمات الإرهابية هم من المسلمين. العجيب حقاً أنه بدلاً من أن نكون على مستوى الحدث ونبادر للاتصال المباشر بمراكز الاستقبال الفكري على مستوى العالم، نجد أن غالبية جهود مكافحة الإرهاب والتطرف محصورة في ندوات ومؤتمرات تناقش أوراقاً بحثية يدافع معظمها عن الحضارة الإسلامية، ويبرز ما عرفه تاريخ أمتنا من مؤسسات ديموقراطية أيام الخلافة الراشدة، بينما يركز البعض الآخر على تأكيد مساهمتنا الحضارية في تاريخ العالم وإنسانيته. ومن المؤكد أن هذا المسعى، على صحة مضمونه، لا يخدم القضية الأساسية التي تحتاج شجاعة الرأي وحُسن ترتيب الأولويات؛ فالمطلوب عاجلاً أن نرصد السبب الحقيقي الذي يجعل البعض فينا يجنح إلى التطرف الفكري ثم يتبعه بالإرهاب اللفظي والسلوكي، والوقوف على مراحل التحول والتصدي لأسباب هذا التحول مدركين أن ثمة خطأ ما، ولا مناص من الاعتراف بنصيبنا من المسؤولية عن هذا التطرف، ولا فائدة من محاولة إلقاء التبعات على الآخرين، والادعاء بأن تربصهم بعالمنا هو السبب الحقيقي وراء هذه الحالة، أو أن إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا كان سبباً لكل الشرور التي يعانيها العالم الإسلامي حتى الآن. ومن هنا تأتي أهمية المراجعة الشاملة لمناهج التعليم والتفكير في عالمنا، وتأكيد حقيقة أن المؤمن يُعرَف بأخلاقه، وأن خالق الكون سبحانه هو الحكم بين عباده في ما هم فيه يختلفون. والواجب على علماء هذه الأمة المبادرة إلى الارتقاء بمناهج تدريس العلوم الدينية بحيث يكون أحد أهدافها التعمق في الغايات، وإبراز الأولويات، والانطلاق من رؤية مفادُها أن الخلق عيال الله. وحريٌّ بنا ونحن نتناول العلاقة مع الآخر بهدف تحديد نهج المحاورة ثقافياً وإعلامياً عدم التركيز على التقوى بالحجج المرتبة لإظهار ترصُد الغرب بنا على مستويات العقيدة والسياسة والتاريخ والاقتصاد والإعلام وغيرها، فهذا التركيز لن يؤدي بنا إلى شيء؛ فمسؤوليتنا الرئيسية عن واقعنا حقيقة لا مراء فيها، ونحمد الله أن لدينا في عالمنا الإسلامي كتابات عديدة تنتقد هذا الواقع وتكشف مواطن الضعف والقصور لدينا، وهي علامة إيجابية نتمنى أن تستمر من أجل مصلحة هذه الأمة. ولنا في كتابات المرحوم الشيخ محمد الغزالي نموذج للنقد البناء الذي يكشف مواطن القصور، ومكامن الجهل، فنراه يؤكد «أن المسلمين في الأعصر الأخيرة فتكت بهم أميَّة طامسة وكانت بالنساء أفتك». كما يرصد مجالات التنافس التي تخلى عنها المسلمون؛ إما عجزاً أو جهلاً، فيقول «ولو كنا على مستوى الإسلام لكان لنا باعٌ طويل في كل فن، ولزاحمنا بالمناكب في كل الكشوف المادية والأدبية والعلمية التي هديت إليها الفطرة بعد سياحات يسيرة أو شاقة، والغريب أن أناساً من جلدتنا لا يزالون باسم الدين يريدون استبقاء قيود التخلف والضياع، إن ذلك يؤكد الحاجة إلى علماء بحور، بحور في جميع المعارف الإنسانية لا فارق بين معقول ومنقول، ولا بين ماديات وأدبيات، ولا بين غيبيات ومحسوسات». والشيخ في ذلك يسير على المنهج النقدي ذاته الذي سبقه إليه الإمام محمد عبده، والأمير شكيب أرسلان، في التحذير من عواقب الجمود والتكاسل عن إعمال العقل، فهي آفات تؤدي في النهاية إلى ظهور جهلاء يسارعون في التكفير وكأنه غاية، ويحاربون التفكير وكأنه رذيلة! ويجب ألا نركن إلى ما قمنا به في الماضي كمبرر للدعة والاستسلام والتوقف عن الفعل الحضاري، فنحن في حاجة ماسَّة إلى المساهمة بفاعلية في هذه المجالات تأدية لواجب ديني وأخلاقي وإنساني. ونحن لا نعدم هذه النماذج في الحاضر؛ لكننا في حاجة إلى تعميمها؛ «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون». والأمر يحتاج منا إلى تبني مبادرات إنسانية تتكلم بلغة يفهمها العالم؛ لغة السلوك الحسن الذي لا يحتاج إلى شرح، لغة الفعل الإيجابي الذي يجعل المسلم نافعاً في محيطه، فلا فائدة من التمسك بالاستعلاء الحضاري وسط واقع أليم يشهد بأن أكثر مآسي العالم المعاصر تتم على أرضنا. هذه المآسي التي تسبَّبت فيها عقول وأفهام لا ترى في الإسلام إلا رقاباً تُذبح، ورؤوساً يُطافُ بها، والإسلام أبعد عن هذا، إلا أن المهم هو توصيل رسالته إلى العالم من خلال حوار بنَّاء يُصححُ المفاهيم. نعم... الحضارة الإسلامية تُحَارب على جبهتين، جبهة داخلية هي أشق عليها من ضرب الحسام، وجبهة خارجية فيها من سوء الفهم الكثير، وفيها من سوء النية الكثير، ولكن الحوار كفيل بتبديل سوء الفهم، أما النوايا فلا تتغير إلا إذا نهضنا بأنفسنا وأصبح لنا قول وفعل حضاري نستحق عليهما الاحترام من العدو قبل الصديق. أخيراً، يجب الانتباه إلى خطورة المرحلة الحالية في تاريخنا، فهي مرحلة تبدل الخرائط وتغير المصائر، وهو ما يفرض علينا المبادرة إلى الخروج من حالة التقوقع الفكري التي نعيشها، والتفلت والتسطيح الإعلامي، فالقادم أسوأ إلا إذا بادرنا إلى وضع خريطة لعلاج الآفات الفكرية والأوضاع المادية التي نعايشها، والصراحة مع أنفسنا بداية طريق النجاح، إلا إذا اكتفينا بوهم أننا نفعل ما علينا، فالتحدي الأساسي أن نغير الواقع لا أن نبحث عن طريقة لتبريره واعتباره قدراً لا فرار منه.