قد تكون هذه المبادرة هي الأولى من نوعها التي دعا اليها «الفيلم هاوس» في مدينة لاهاي لأننا لم نحضر مثيلاً لها في أي من المدن الهولندية من قبل. وقد تكون في مجملها مبادرة هولندية على حد علمنا المتواضع ولكنها على أية حال تجربة تستحق الإشادة لأنها تحث المتابع والجمهور السينمائي على أن يكون بدوره ناقداً لما يشاهده من أفلام وبالتالي يسهم في اختيار الأفلام ذات القيمة الجمالية والفكرية الرفيعة. هذه المبادرة قدمت في بداية هذه السنة ولاقت استحساناً من قبل الجمهور الذي بدأ يحرص على حضور الأفلام التي تقدم بعد كل نقاش. المبادرة تقوم على دعوة عدد من المثقفين والفنانين وغالباً ما يكونون ثلاثة ليطلب منهم اختيار فيلم يتم عرضه للنقاش أولاً، فإذا حظي بموافقة الجمهور يكون هو الفيلم المختار من بين الأفلام الثلاثة المتنافسة ليعرض في الليلة نفسها. يقوم الفنان أو المثقف الذي وقع عليه الاختيار بالحديث عن الفيلم الذي يجده جديراً بالمشاهدة مع تقديم فكرة عن رؤيته للفيلم والأسباب التي دعته لأن يعتقد إن هذا الفيلم هو الأهم من بين الأفلام الثلاثة. من حق الشخص الذي يروج للفيلم الذي يختاره أن يعرض ثلاثة مشاهد قصيرة منه ويتحدث عنها وبعد إن ينتهي من عرض المشاهد الثلاثة والحديث عن الفيلم يقوم الجمهور بمناقشته، وهكذا مع الشخصين الآخرين حتى يصل الأمر في النهاية إلى مرحلة تصويت الجمهور على الفيلم الجدير بالمشاهدة. حفلة مغربية هذه المرة الرابعة بالنسبة الى المبادرة وقد خصصت لثلاثة أفلام مغربية هي «الملائكة لا تحلق في سماء كازابلانكا» لمحمد اسلي و «علي زوا» لنبيل عيوش و «السفر الطويل» لإسماعيل فروقي. اختار الفيلم الأول الروائي الهولندي من أصول مغربية عبدالقادر بن علي وهو احد أهم الروائيين الهولنديين والحائز على أهم الجوائز الأدبية وقدم له بطريقته الروائية الجذابة. واختار الفيلم الثاني الناقد والمترجم سعيد الحجي، إما الثالث فكان من اختيار السيدة سعاد سلامة مسؤولة إحدى المؤسسات الاجتماعية في أمستردام. ولأن عبدالقادر بن علي أكثر شهرة من زملائه وأكثر قدرة على الحديث عن الفيلم الذي اختاره، نجح في إقناع الجمهور للتصويت على الفيلم الذي اختاره وكان له ما أراد حيث عرض الفيلم بعد المناقشة فكان هو والجمهور الذي صوت على فيلمه على حق. الملائكة لا تحلق يتحدث الفيلم بواقعيته الشديدة عن قضية الهجرة الداخلية والخارجية لرجال قرية امازيغية نائية ومنسية في جبال الأطلس الجرداء، وما ينتج من هذه الهجرة من تداعيات اجتماعية ونفسية ستكون نتيجتها ضياع وخراب كل شيء على الإطلاق. تبدأ الهجرة الداخلية من القرية إلى المدينة عندما يقرر سعيد، الذي لا يجد ما يفعله في القرية الفقيرة، السفر إلى كازابلانكا للبحث عن عمل تاركاً خلفه طفله الصغير وزوجته الحامل آملاً بأن يجمع المال الذي يستطيع به ان يوفر عيشاً كريماً لعائلته. لكن سعيد لن يكون الأول أو الأخير ممن يغادر القرية حيث سيتبعه شبان كثر حتى تخلو القرية من الرجال الذين لن يعودوا إليها إلا بعد مرور فترة طويلة من الزمن يكون فيها من الصعب تغيير الأمور التي ستحدث كما ستؤول إليه حال زوجة سعيد التي ستموت في ظروف مأسوية. إذا كانت أحلام سعيد فيها شيء من المنطق والعفوية فإن أحلام المهاجرين الآخرين تبدو صبيانية وطوباوية في كثير من الأحيان. فعثمان الشاب المشدود إلى الماضي يتذكر بقوة طفولته التي عاشها رفقة والده مع الفروسية ولا يريد أن يتجاوز هذه المرحلة فهو يحتفظ بجواد في القرية ويعمل مثل الحمار من اجل إن يطعم هذا الجواد الذي ورثه عن أبيه. إما الشاب الآخر والقادم من قرية نائية أخرى فانه يعمل طوال النهار من أجل شراء حذاء غالي الثمن هو كل أحلامه. يسلط المخرج محمد اسلي أضواء كثيرة على أوهام الهجرة ولكنه في الوقت نفسه يسلط أضواء قوية على تلك المناطق المنسية تماماً والتي تبدو خارج التاريخ، عزلة كاملة في جبال صخرية قاسية تغطيها الثلوج طيلة أيام السنة. لا أشجار ولا طيور حتى السماء تبدو قاحلة فوق مساحات شاسعة فارغة ولا تبشر بأي أمل. في المقابل يستعرض المخرج حياة المدينة الصاخبة وقيمها الجديدة التي تطحن البشر من خلال استغلالهم إلى أقصى حد من دون رحمة، فهذا صاحب المطعم الذي يعمل عنده سعيد يرفض أكثر من مرة ان يمنح عامله إجازة لرؤية زوجته وطفله الذي ولد بعد رحيله. لكنه يرضخ في النهاية لأن زوجته سعيدة مريضة جداً وليس لديها من يقف إلى جانبها، غير ان سعيد سيصل إلى القرية متأخراً جداً من اجل إن ينقل زوجته إلى مستشفى في كازابلانكا. انه يسأل عن المرض الذي أصاب زوجته فيقولون له أنها أصيبت به بعد الولادة لكن مرضها الحقيقي هو الوحدة والعزلة والنسيان وليس مرضاً عضوياً في إشارة رمزية إلى النسيان والعزلة التي تلف آلاف النساء في القرى النائية. يجاهد سعيد من اجل إنقاذ زوجته المريضة لكنها تموت في الطريق إلى المدينة في سيارة أجرة، طريق موحش في طبيعة شديدة القسوة. وهكذا يجد سعيد نفسه وحيداً مع زوجته الميتة، حيث يرفض أصحاب السيارات مساعدته في نقل جثمانها إلى القرية. ليست الطبيعة وحدها هي القاسية ولكن الناس أيضاً هم نتاج هذه الطبيعة وموت الزوجة هو موت رمزي أيضاً في إشارة إلى موت هذه القرى التي يقتلها الإهمال والنسيان.