يعقد وزراء الخارجية العرب خلال الاسبوع المقبل اجتماعاً من اجل وضع جدول اعمال مؤتمر القمة العربية في طرابلس. التحضيرات والمداولات التي تمت حتى الآن بصدد المؤتمر المرتقب، بما في ذلك المقررات التي اتخذوها في اجتماع عقدوه مطلع هذا الشهر في القاهرة، تدل على ان القضايا السياسية والامنية وفي طليعتها قضية الصراع العربي - الاسرائيلي ستحتل القسم الاكبر من اعمال القمة. اما القضايا المتعلقة بالعلاقات العربية البينية وخاصة على صعيد التعاون الاقتصادي وتنمية مؤسسات العمل العربي المشترك فإنها لن تهمل - خاصة ان اليمن قدم مبادرة لتفعيل العمل العربي المشترك الى مؤتمر القمة - ولكنها لن تحظى باهتمام كبير. هذا النهج يبدو طبيعياً ومحبَّذاً لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العربي اذا ما اخذنا بالاعتبار الظروف التي ترافق عقد قمة طرابلس. فالتحديات الاسرائيلية للدول العربية وللمجتمع الدولي تبدو على اشدها. ولن يكون من المبالغة ان يشبّه المرء مواقف نتانياهو وسياساته اليوم بأعمال ادولف هتلر خلال النصف الثاني من الثلاثينات، حينما اعلن انسحاب الحكومة النازية من معاهدة فرساي وارسل جيشه لاحتلال تشيكوسلوفاكيا. ولا يكاد يمضي يوم واحد من دون أن يوجه فيه الاسرائيليون الى العرب والى المجتمع الدولي الإهانات والتهديدات. ولفرط تراكم هذه التهديدات، مثل التهديد بشن حرب على سورية ولبنان او على ايران، فإنه يصبح لزاماً اعطاء الجزء الاكبر من الاهتمام في القمة العربية لقضايا الأمن والسلم. المسوغ الآخر لإعطاء قضايا الأمن الاقليمي الأولوية على غيرها من القضايا العربية ذات الطابع الوظيفي والبنيوي، هو ان القادة العرب قد اعطوا هذه القضايا اهمية خاصة واستثنائية عندما عقدوا القمة الاقتصادية العربية في مطلع العام الفائت وعندما اقروا مبدأ دورية هذا النوع من مؤتمرات القمة العربية. استطراداً، فإنه يمكن القول بأنه لم يعد من مبرر لإعطاء قضايا التعاون الاقليمي العربي في المجال الوظيفي الدرجة نفسها من الاهتمام مع قضايا الأمن والسلم. لئن كانت هناك مبررات لإعطاء قضايا الأمن والسياسة الأولوية في القمة المقبلة، فإن من المعتقد ان هذه المبررات نفسها تدعو القادة العرب الى اعطاء قضايا التعاون الوظيفي وتفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك درجة عالية من الاهتمام. فليس من شك ان على الدول العربية اتخاذ موقف رادع ضد التهديدات والضغوط الاسرائيلية، ولكن هل تستطيع الدول العربية اتخاذ هذا الموقف؟ الجواب الذي يتردد دوماً في الاوساط العربية الرسمية هو ان موازين القوى الاقليمية والدولية لا تسمح للعرب باتباع سياسة رادعة حقاً ضد اسرائيل. هنا يستحسن بنا العودة الى مقارنة الصراع بين الهتلرية والدول والقوى المناهضة لها خلال الثلاثينات، من جهة، وبالصراع بين اسرائيل والدول العربية، من جهة اخرى. فبعد احتلال تشيكوسلوفاكيا امتنعت دول اوروبا المناهضة، بسبب موازين القوى غير الملائمة، عن اتخاذ مواقف رادعة ضد هتلر، ولكن مع فارق مهم بين ذلك الموقف وبين ما تفعله الحكومات العربية اليوم في مواجهة التوسع الصهيوني. ففي موازاة الاندفاع التوسعي النازي في اوروبا، انكبت حكومة تشمبرلين البريطانية على رفع معدلات الانتاج على كل صعيد في بريطانيا، خلال فترة قصيرة نسبياً، والإعداد الفعلي لخوض الحرب، وخاصة في المجال العسكري، ضد الهتلرية. وهكذا عندما دقت ساعة الحرب في ايلول (سبتمبر) 1939، دخلتها بريطانيا وهي مستعدة لحرب عسكرية واقتصادية وسياسية طويلة الأمد. بالمقارنة فإن الدول العربية لم تتمكن، في اي لحظة من لحظات الصراع العربي - الاسرائيلي، من الاستفادة من عنصر الزمن كما استفادت منه حكومة تشمبرلين في بريطانيا. الاستفادة من عنصر الزمن في وجه تحديات الخارج والداخل، تقتضي الاسراع في تطبيق الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدفاعية على الصعيدين المحلي والاقليمي في المنطقة العربية. ونظراً لأهمية الاقتصاد فإن من المفروض ادراج النهوض بالاوضاع الاقتصادية العربية في اطار الردود المطلوبة على «الفلتان» الاسرائيلي في المنطقة. في هذا السياق، المنطق يقضي بايلاء هذه المسألة اهمية كبيرة في كل قمة عربية عادية او استثنائية، متخصصة او عامة وشاملة. كذلك يقضي المنطق والمصلحة العربية الا نعامل القمة الاقتصادية العربية كغرفة لحفظ الاضبارات والأرشيف، نرحل اليها المشاريع والانشغالات الوظيفية حتى ترقد فيها هانئة مطمئنة، بل كمحطة اضافية ومتخصصة من محطات تفعيل العمل العربي المشترك. اذا كان للقادة العرب ان يعطوا الشأن الاقتصادي حقه من الاهتمام، فإن مسألة النهوض بمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (غافتا) تستحق ان تعطى الاولوية بين الاهتمامات لأسباب كثيرة منها : اولاً: لأنه اذ احسن الاهتمام ب «غافتا»، فإنها جديرة بأن تشكل قاطرة للنهوض الاقتصادي وأن تحفز العمل العربي المشترك. هذا ما حدث في اوروبا وجنوب شرق آسيا عندما بدأت رحلة الأقلمة بالتعاون في مجال الأمن ولكنها لم تصل الى مستوى الجد الا عندما تحولت الى سوق مشتركة. ثانياً: لأن النهوض بالاقتصاد الوطني والاقليمي يمكّن الدول العربية - خاصة دول الطوق غير النفطية - من تنمية طاقاتها الدفاعية، كما يمكّنها ايضا من احباط الضغوط وسياسات الابتزاز التي مورست وتمارس عليها حتى تتكيف مع مشاريع اسرائيل التوسعية وترضخ لإرادتها. ثالثاً: لأن «غافتا» تبدو اكثر مشاريع التعاون الاقتصادي الاقليمي بين الدول العربية جدية حتى الآن. فبالمقارنة بين مشاريع عديدة مماثلة، تعتبر دراسة اعدها باحثان من جامعة نانت في فرنسا ان «غافتا» هي الأفضل والأكثر حظاً في تحقيق تقدم حقيقي. وتسجل الدراسة نجاحات متعددة حققتها الاتفاقية. فبين عامي 1997 (يوم اقرت الاتفاقية) و2005 فاقت الصادرات العربية الموجهة الى دول السوق، الصادرات الدولية الى الاسواق العالمية بمعدل الضعف تقريباً. وسجلت الدراسة ايضاً ان نسبة الارتفاع في التجارة بين دول «غافتا» منذ تأسيسها وحتى عام 2005 بلغت حوالى 20%. فضلا عن ذلك لاحظ معدا الدراسة عابديني وبريدي انه خلافاً لكثير من النظريات، فإن المستفيد الاكبر من هذه الاتفاقية كان حتى النصف الاول من هذا العقد بعض الدول النفطية العربية. ولهذه الملاحظات اهمية من حيث انها ترد على الذين يحاولون عرقلة التعاون الاقليمي العربي عن طريق القول بأنه محاولة من قبل الدول العربية غير النفطية لتقاسم عائدات النفط مع الدول العربية النفطية. ان اتفاقية «غافتا» لم تحقق اهدافها بعد، وينبغي على الدول الاعضاء ان تقوم بجهد كبير من اجل نزع العوائق غير الجمركية امام انسياب التجارة العربية البينية حتى تتحول «المنطقة» الى اتحاد جمركي، والاتحاد الجمركي الى سوق مشتركة. ولكن هذا الجهد هو في متناول يد الدول العربية. على هذا الصعيد يقدم الموقف السوري تجاه «غافتا» نموذجاً لافتاً ومشجعاً. فابتداء من عام 2002 اصدرت الحكومات السورية سلسلسة قوانين وقرارات متلاحقة من اجل تسريع تطبيق بنود الاتفاقية وازالة كافة العوائق الجمركية وغير الجمركية التي تعرقل انسياب التجارة بين سورية والدول الاعضاء في الاتفاقية. الآن تحصد سورية النتائج الايجابية لهذه الإجراءات، فحسب التقرير السنوي ل «الاسكوا» ارتفع حجم تجارة سورية مع دول منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى بالمقارنة مع مجمل تجارتها الخارجية بين عامي 1997 و2007 بنسبة 482%. وهي نسبة عالية جداً بالمقارنة مع ارتفاع معدلات التجارة داخل التكتلات الاقليمية الأخرى. هذا النموذج السوري في التعامل مع «غافتا» يدل على انه باستطاعة الدول العربية تحقيق فوائد ملموسة عبر رفع مستوى الشراكة الاقليمية. مثل هذه الشراكة توفر غطاء اقتصادياً لأي موقف عربي حازم ضد توسع اسرائيل وضد حماتها ورعاتها الدوليين. * كاتب لبناني