ما نشاهده اليوم في مجتمعاتنا العربية من مبالغة في بعض المظاهر «الدينية»، يدفع المرء، رغماً عنه، الى الحديث في ما يبدو أنه ثانوي، ولا أهمية له. بديهي ألا تكون هناك أية مشكلة في اختلاف الآراء وتعددها، بل بالعكس، ربما يكون ذلك إيجابياً، وأحد الأسباب التي تعطي للمجتمع حيوية خاصة، طالما أن ذلك ينتمي الى ما يمكن وضعه ضمن إطار الحريات العامة التي لا تتعدى على حرية الآخرين. في السياق نفسه يندرج الموقف من تعدد الثقافات وتنوعها وما يترتب على ذلك من اختلاف للعادات والتقاليد، بين بلد وآخر، ومدينة وأخرى داخل البلد نفسه. ومن الأمثلة على ذلك التنوع، اختلاف طبيعة الألبسة وأشكالها: الحطة والعقال، الطربوش، الجلابية، البنطال، العباية، الفستان... إلخ. لكن ما يلفت ويثير الاستفزاز، هو تلك الصور الخاطئة التي يمكن بعض الظواهر أن تعطيها عن مجتمعاتنا. فعلى سبيل المثال، هناك بعض مظاهر التدين، ذات العلاقة بالمظهر الخارجي (اللباس، اللحية الطويلة... إلخ) والتي يحاول البعض (نستثني من كلامنا، فئة كبار رجال الدين، من مختلف الأديان، حيث إن مواقعهم الدينية، إضافة إلى قناعاتهم طبعاً، تتطلب لباساً ومظهراً معيناً هو الذي نراهم عليه) ربطها بالتدين وشدة الإيمان، من اللحية المتدلية من دون تشذيب، مروراً ب «الجلابية» القصيرة، إلى «الكشرة» التي يرسمها البعض على وجهه (ما بيضحك للرغيف السخن)! حقيقة، أن تلك المظاهر لا تثير الخوف لدى الصغار فقط، بل، ربما لدى الكبار أيضاً! فعلى ماذا يستند أصحابها ودعاتها؟ ولماذا يصرون على إيصال رسائل الى العالم لا علاقة لها بمجتمعاتنا! ما المشكلة في تشذيب اللحى، وإطالة «الجلابيب» والبشاشة والابتسام حتى ولو كان ذلك تمثيلاً (اللهم إلا إذا كان التمثيل حراماً؟). هل الشكل الخارجي المرتب والأنيق الذي يحرص على الظهور به الكثير من المتدينين (على سبيل المثال لا الحصر، المسؤولون الأتراك، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الخارجية... إلخ) يتناقض مع تدينهم؟ وفي سياق يختلف قليلاً عما نتحدث عنه، نشير إلى ظاهرة منتشرة بكثرة اليوم، لا سيما في بعض الدول العربية، هي الإذاعات الدينية والكاسيتات أو «السيديات» التي يفرض سائقو سيارات الأجرة على الركاب، رغماً عنهم، الاستماع اليها. صحيح أن اختيار المرء ما يود سماعه، هو من الحريات الشخصية، لكنها تكف عن كونها كذلك عندما تتعدى على حرية الآخرين، فلا يكتفي السائق بالاستماع وحده الى ما يرغب، بل يرفع الصوت كثيراً (كلما علا الصوت، دلل ذلك على شدة إيمانه!) من دون أن يسأل ركابه إن كانوا راغبين في سماع ذلك أم لا! لقد بتنا نفتقر الى تلك الصباحات الهادئة... فبالله عليكم، كيف سرقتكم فيروز وأغانيها من صباحنا؟ وما دمنا نتحدث عن الغناء، نشير إلى ما يذهب إليه البعض من تحريم للأغاني والموسيقى وغيرها من الفنون! ففي الوقت الذي يمكن اعتبار تطور الموسيقى وغيرها من الفنون، في مجتمع ما، مؤشراً لمدى تقدمه وحضارته، وفي الوقت الذي تفاخر الدول بما أنجزته في هذا المجال، وبما لديها من فنانين مبدعين، يقوم البعض بتحريم العزف على الآلات الموسيقية! هنا أجد نفسي معنياً بالحالة الفلسطينية، التي يلعب فيها الفن بأنواعه دوراً كبيراً في المقاومة. وبدلاً من تشجيع حالات إبداعية، لها دورها في كسب المؤيدين للقضية الفلسطينية على الساحة العالمية، يسارع البعض بخفة ولا مبالاة إلى تحريم الغناء والموسيقى! والسؤال الذي يطرح نفسه على هؤلاء: ما هو المنطق الذي تتسلحون به ويدفعكم الى تجريد المقاومة من أسلحتها؟ ما هي صورة الفلسطيني التي ترغبون في إعطائها للعالم؟ وكيف نكسب الأصدقاء من حولنا؟ أبقرع الدفوف، أم بصوت كاميليا جبران، وشعر محمود درويش، ولوحات اسماعيل شموط وتمام الأكحل، وسينما إيليا سليمان، ومسرح محمد بكري، وعزف سمير جبران؟ أين يكمن الحرام في أصوات آلات موسيقية كالبيانو والكمان والقانون والعود والفلوت...؟ وما الضرر الذي يلحقه بالإنسان وقيمه وأخلاقه سماع مقطوعة موسيقية لبيتهوفن أم موتسارت أم عمر خيرت أم زياد الرحباني أم منير بشير أم ياني... إلخ؟ ثم إن التحريم يجب أن يشمل فرق الإنشاد والدفوف، لأن الحنجرة والدف هما أيضاً من الآلات الموسيقية! من جانب آخر، فإن تعميم تحريم الآلات الموسيقية، يعني افتقادها في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات الرسمية وغير الرسمية! ولنا أن نتخيل، على سبيل المثال، عرساً بلا موسيقى، بلا غناء، بلا رقص، بلا دبكة، بلا... إلخ. إنه ليس عرساً بل هو أقرب إلى المأتم! ولنا أن نتخيل، لا سمح الله، في دولة ما تمنع فيها هذه الآلات الشيطانية، أن يزج بالسجن، أو يعاقب بالجلد مثلاً، من لديه آلة موسيقية! ولكن ماذا ستفعل هذه الدولة عند استقبالها زعيم دولة أخرى؟ بماذا، وكيف سيعزف النشيد الوطني لكلتا الدولتين؟ ربما بالحناجر والدفوف! أخيراً، وبالانتقال الى ما له علاقة بالمرأة، يمكن، وبكل موضوعية، القول، إنه لا يمكن، بأي حال، الاستهانة بالفرق الواضح والنوعي بين الحجاب الجميل والأنيق الذي ترتديه الكثيرات من النساء، ومنهن المذيعات في بعض القنوات الفضائية، وبين ما نشاهده هنا وهناك من «طلبنة» للنساء تحجب عنهن الضوء والشمس والهواء! بناء على ما سبق، هل يمكن اعتبار تلك الظواهر والمظاهر مسائل ثانوية وهي التي تترك لدى الناظر إليها، والمراقب لها، على المستوى المحلي والعالمي، انطباعات جوهرية عن مجتمعاتنا وما وصلت إليه من تقدم أو تخلف؟ وهل هناك حاجة الى العودة الى الأسلاف من أجل تأكيد صحة نقدنا لتلك الظواهر، أم أن المحاكمة العقلية البسيطة، كافية للبرهنة على ذلك؟ إذا لم تكن تلك المحاكمة كافية، فعلى الله العوض، وإنا لله وإنا إليه راجعون. * كاتب فلسطيني.