رجل من نجد، حيث الصحراء من كل اتجاه، ومع ذلك ما زال وهو يصافح ال90 من عمره يتقد حباً وغزلاً... عبدالله بن إدريس لا تذكر الثقافة إلا ونتذكره أكثر، أينما حل كان هناك نتاج وإبداع هو حر في الرأي والتفكير، وحريته تلك كلّفته الكثير، وجعلته في منأى عن مكاسب عدة. لكنه سيكرم غدا في المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» باختياره شخصية المهرجان هذا العام. ولعبدالله بن دريس دواوين سارت بها الركبان، وله كتاب عن شعراء نجد لم يسبقه إليه أحد، ولولا «الكسل والتسويف»، كما يقول ضيفنا، لكانت حصيلة جهوده وأعماله خلال ما يزيد على نصف قرن أضعاف ما ظهر له من نتاج مطبوع حتى الآن، كماً ونوعاً... فإلى تفاصيل الحوار ما أنت فيه الآن بعد هذا المشوار الطويل، هل خطّطت له مبكراً في حياتك؟ - طبعاً لا لم أخطط له. لكن مع تطور الحياة والممارسة، تنمو الموهبة نمواً مطرداً مع الجسم والعقل، حتى بلغت والحمد لله مبلغها. وكانت بداية رحلتي مع الشعر بسيطة، لكنها تطوّرت وتنوعت، مفردة ومعنى، وشاركت مبكراً في مسابقات دولية في الشعر، أذكر منها مسابقة في إذاعة لندن، إذ أقامت مسابقة بين شعراء العالم العربي عام 1960، اشترك فيها بحسبما أعلن، 1800 شاعر من مختلف دول العالم العربي، وشاركت بقصيدتي وهي عن الفضاء، وفازت بجائزة المسابقة. كيف اختطفك التعليم والثقافة مبكراً من الزراعة والتجارة اللتين كانتا سائدتين آنذاك؟ - الوالد، رحمه الله، في حياته كان طالب علم، وأوجد كتباً في البيت، وأصبحت أقرأ في هذه الكتب منذ صغري، ما جعلني محباً للقراءة في ذلك الوقت وإلى الآن، وهذا ما فتّح مواهبي، بداية من سماع أئمة المساجد الذين يقرأون على الجماعة بعد صلاة العصر أو بين العشاءين، وكان بعضهم يستشهد بأبيات شعر ويتغنون بها، فعشقت ذلك الصوت الغنائي، إذ كانوا يقرأون الشعر بقراءتهم نفسها للقرآن. وكانت هذه طريقة إلقاء الشعر في العصر الجاهلي، ليس كما يلقونها الآن بحماسة، وإنما كانوا يتغنون بها، من هنا بدأت موهبة الشعر تنمو لديّ بالقراءة والسماع ثم تطوّرت والحمد لله، ما جعلني انصرف إلى التعليم والأدب مبكراً، وانشغل به عن أي شيء آخر. تعليمك في أي المدارس تم؟ - كانت البداية على يد سماحة المفتي العام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - إذ درست على يديه قبل أن يأتي التعليم النظامي، وبعد فتح المعهد العلمي في الرياض التحقت به، وكان هو أول تعليم نظامي في نجد مع ثانوية اليمامة، واحتسبت دراستي على الشيخ محمد بالمرحلة الثانوية، ثم التحقت بكلية الشريعة، وتخرجت فيها. قربك من الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - هل حفظك من شيء معين، أم منحك إطاراً معيناً؟ - الشيخ محمد - رحمه الله - كان يحب الطلبة المتفوقين أو الذين لديهم بذور التميز، وقد كانوا قلة، وكان الشيخ محمد يُقرأ عليه شعري، لأنه كان كفيفاً، وكثيراً ما كان يعجب بشعري والعلماء عادة ما يحبون الشعر، ويتفاعلون معه تفاعلاً كبيراً، وهو كان يكتب بعضاً من الشعر، ولكنه قصائد ليست طويلة وقليلة أيضاً، وكان ينعى فيها على كسل طلبة العلم. شيخ سلفي وتكتب قصائد غزلية قد تحرج الشيخ فيك، أما استحيت من قصيدة غزلية وأنت الشيخ عبدالله بن إدريس؟ - أبداً ما كنت استحي من قصائدي، ولو نظرت إلى العلماء والشيوخ، لوجدتهم غير جامدين، بل يحسون بجمال الشعر، سواء كان شعراً غزلياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو فكرياً، لا يوجد عندهم مانع في هذا أبداً، ولهذا كنت أكتب الشعر بحسب ما يحدث لي حينها من مواجهات فكرية أو رؤى. ومن الطريف أنني لا أحفظ شعري أو بعضه - على الأقل - في حين أن بعضاً من قراء شعري يحفظون منه أضعاف ما أحفظه أنا، ومع أن حفظ الآخرين لشيء من شعري هو شرف لي، إلا أن عدم حفظي لشعري أو لشعر غيري يحرجني أحياناً، ربما لأنني عوّدت نفسي أن أفهم أكثر مما أحفظ. صحيفة الدعوة والجرأة بماذا اختلف الشيخ محمد بن إبراهيم عن المشايخ الذين أتوا بعده؟ - ما شعرنا بشيء معين أو اختلاف واضح، لأن الشيخ محمد كان منفتحاً، وليس من العلماء المنغلقين، فكان يُقرأ عليه الشعر، وكانت تُقرأ عليه المقالات التي تنشر في الصحف، وكان عاملاً مؤثراً في الحراك الثقافي حينها، إذ عمل على إنشاء صحيفة «الدعوة»، وطلب ذلك شخصياً من الملك فيصل - رحمه الله - فوافقه عليها. وحينها طلب مني إنشاء صحيفة «الدعوة» من الصفر، وأوكل كل شيء لي، وحرصت على أن تكون الصحيفة شاملة، فأصبحنا نكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والرياضة والفنون، وفي كل ما تتطرق إليه الصحف الأخرى، بل كانت عندنا الجرأة أكثر من الصحف الأخرى، ولهذا كانت افتتاحياتي في صحيفة «الدعوة» تُذاع أحياناً في عدد من المحطات الإذاعية، مثل إذاعة لندن وصوت أميركا وصوت العرب وإذاعة بغداد وإذاعة الكويت، وكانت الافتتاحيات سياسية غالباً، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم داعماً كبيراً لها، ولا أذكر أنه اعترض فيها على شيء. هل أتت لصحيفة «الدعوة» مشكلات رقابية؟ - كثيرة جداً، وكنت لا أعبأ بالاعتراضات، خصوصاً التي تأتي من وكيل وزارة الإعلام آنذاك - ولن أذكر اسمه - إذ كان يتصل مع كل صدور عدد، وفي الغالب ما تكون افتتاحيتي في الصحيفة سياسية، وكانت جريئة في نقدها للدول التي كانت لها علاقات قوية بإسرائيل وتساعدها، مثل أميركا والدول الأوروبية، وكنت أكتب ضدها، فيعتب عليّ الوكيل ويقول أنت تشدّد على أميركا، ولا تشدّد على روسيا، فقلت له روسيا مثل ما قال الله تعالى: (إنه لكم عدو فاتخذوه عدواً)، فهي دولة مفروغ من عداوتها للإسلام، ولكن الأميركان ودول أوروبا يدعون أنهم ليسوا أعداء الإسلام، وهم كاذبون ويحاربون الإسلام. وقد اشتكوا إلى وزير الإعلام في ذلك الوقت جميل الحجيلان بأن ابن إدريس يكتب مقالات حادة، سياسية واجتماعية، ولا يحدث له شيء! ونحن ننتقد أي تجاوز، وكان يتزعمهم رئيس تحرير صحيفة «البلاد» آنذاك الأستاذ عبدالمجيد شبكشي - رحمه الله - وقال لهم الوزير: «لا يوجد عندنا تفريق بين رؤساء التحرير، لكن ابن إدريس كان يكتب وينقد في الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية بقوة، لكن بحكمة، وهناك فرق كبير بين الجرأة المطلقة والجرأة بحكمة». كيف كان موقف الملك فيصل - رحمه الله - من الصحيفة؟ - كان، رحمه الله، معجباً بالصحيفة، وبعثت له خطاباً، طلبت فيه أن يكتب مقالاً في العدد الثاني أو الثالث من الصحيفة، فاستجاب لطلبي بسرعة وكتب معنا. في فترة شبابكم كانت هناك تيارات فكرية في المنطقة، كيف كنتم تتعاملون مع هذه التيارات؟ - كنا نتعامل معها بروح منفتحة، فلا يوجد موقف متشنج منها إلا الشيوعية، فنحن ضدها وضد الإلحاد برمته، لكن من ناحية القومية العربية، فهي قريبة منا ومن مجتمعنا، وكانت سياسة بعض الزعماء العرب والتي كانت مناوئة للغرب حينذاك، تعجبنا ونثني عليها ونكتب عنها، حتى لو كانت عليها بعض الملاحظات، لأننا كنا نرى أنه يمكن أن يمحوا إسرائيل، ولكن مع الأسف لم يتحقق شيء! كنت في وزارة المعارف مسؤولاً عن المجلس الأعلى لرعاية العلوم والآداب، المجلس هذا لا ندري أين ذهب؟ - كنت أميناً عاماً للمجلس الأعلى لرعاية العلوم والآداب والفنون، وأعددنا لوائح وتنظيمات له، صدر بها قرار من الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله - وأردنا تفعيله وتطوير العمل به، وبدأت عملي فيه بطرح مسابقة شعرية بين شعراء المملكة، وحدّدت لها 70 ألف ريال جوائز للقصائد الفائزة، ووصلنا عدد من القصائد الشعرية، وفجأة جاء إلى مكتبي مسؤول في الوزارة، وقال لي أعطني هذا الملف، وتبيّن في ما بعد أنه بطلب من الجهات العليا. وبعدها جمّدوا المجلس الأعلى للعلوم والآداب، ولم يفعل شيئاً يذكر! وأخيراً «حيل بين العير والنزوان»، والأمثال لا تغيّر! وعندما رأيت الأمر بهذا الشكل، آثرت أن انتقل من الوزارة إلى جامعة الإمام، إذ عيّنت أميناً عاماً للجامعة لمدة عام تقريباً، ثم رئيساً لإدارة البعثات والثقافة، حتى تقاعدت. اتجاهك للنادي الأدبي... كيف تم؟ - كنت في جامعة الإمام كما أسلفت، ولم أشعر بأنني منحت فيها ما استحق، بل حرمت فيها من فرص عدة! وفي تلك الفترة طلب مني الأمير سلمان بن عبدالعزيز أن أكون رئيساً للنادي الأدبي فوافقت على الفور، وعملت منذ عام 1401ه حوالى 23 عاماً رئيساً للنادي الأدبي في الرياض، ثم استقلت لشعوري بالإرهاق والتعب. ماذا يعني احتفال الجنادرية بك هذه السنة؟ - يعني لي شهادة تقدير لما قمت به، وما أسهمت فيه خدمة لثقافة وطني وثقافة أمتي، وهذا التكريم بالنسبة لي هو حصاد للعمر الطويل الذي مر. أيضاً جائزة الدولة التقديرية توقفت عندك، وكانوا يقولون السنة المقبلة سيفوز بها عبدالله بن إدريس أو رُشحت لها؟ - نعم رُشحت لها أنا ومحمد حسن فقي وحسين عرب - رحمهما الله - وأقيمت الجائزة لسنتين، ولكن للأسف توقفت بعد ذلك. وما سبب إيقافها؟ - الصحافيون كانوا يسألون الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله - متى تعاد جائزة الدولة التقديرية، فكان يقول قريب جداً! وما زال الوسط الثقافي والإعلامي ينتظر. المعارك الأدبية عندما تتذكر المعارك الأدبية والثقافية، هل ترى أنها كانت تستحق الخوض والنزال فيها؟ - توجد في الوسط معارك رؤى وأفكار، أكثر منها في الجانب الشعري، ولم تكن تأخذ من وقتي أي شيء إذا حدثت، وكانت تحدث حراكاً وتجديداً للحياة في الوسط الثقافي من حولنا. وأذكر قبل عقدين من الزمان أنني قمت بحملة جريئة وصريحة على «دعاة العامية» ومشجعي نشر الشعر العامي، بخيره وشره، بجيده ورديئه. وبدأت الحملة بمقال نشر في صحيفة «الجزيرة» في شهر ذي القعدة عام 1403ه بعنوان «طغيان الشعر العامي على وسائل الإعلام». ثم توالت الردود والمناقشات واستمرت «سنتين»، وكان الغالبية من مشاركات الأدباء والمثقفين في هذه المعركة يؤيّدون وجهة نظري، ويساندون دعوتي في عدم نشر الشعر العامي في وسائل الإعلام إلا على أضيق نطاق ممكن، كالاستشهاد ببعضه على تاريخ أو أحداث. وتوقعت من وزارة الإعلام أن تساند هذه الدعوة، حفاظاً على سمعة المملكة التي هي أم العرب، ومنبت اللغة العربية، ومشرق الإسلام، ولكن يبدو أن وزارة الإعلام مغلوبة على أمرها، لقد فشلت هذه الدعوة - محلياً - وإن وجدت قبولاً واستجابة من علماء وأدباء ومثقفي البلاد، طولاً وعرضاً. ذكرت في بعض مقالاتك أن الحداثة ليست مذهباً جديداً، وأن الحداثيين هم الذين أفشلوها أكثر من أي أحد آخر، هل ما زلت مؤمناً بهذه المقولة؟ - نعم لا شيء جديداً في هذا، فالحداثة هي حداثة الزمن وحداثة الرؤى والأفكار عند الشاعر، فعند الكاتب تتطور الأحداث، وتتطور الرؤى الفكرية عند كل جيل من الأجيال، الحداثة موجودة قديماً وتخمد أحياناً ثم تثار من جديد وهكذا، فهي عبارة عن رؤى فكرية تخالف الواقع أحياناً، يؤمن بها الجميع، فيصبح هناك انفتاح وسعة في الأفق والبيان، وما زلت مؤمناً بأن حداثيينا لم يحسنوا صنعا بالحداثة، وأنا لم يكن لي رد فعل تجاههم، فأنا من الذين يؤيدون الحداثة لكن باتزان، أنا حداثي باعتدال، أكتب الشعر الحر شعر التفعيلة، وهو من عطاءات الحداثيين. يرى البعض أنه عندما كان الفضاء ضيقاً كنت أنت أكثر اتساعاً، وعندما اتسعت الفضاءات أصبحت أنت بعيداً عن الخوض في أي أحداث؟ - لا اعتقد أنني مبتعد عن الأحداث، لكنني كبرت وأحسست بأنه لا توجد ضرورة لأن أشارك أو أكتب في هذا المجال، وأنا في هذه السن الذي كان في نفسي قلته في الأزمان الماضية، فانا الآن أنا كبرت وأحب الراحة والبقاء في الظل. هل تتوقع أن الكتابة سرقتك من الشعر؟ - لا اعتقد ذلك، الشعر شيء، والكتابة شيء آخر، كلاهما يأتي في زمنه، الشعر لا يأتي إلا بدافع معين، دافع فكري.. دافع قومي.. دافع عقدي.. دافع غزلي.. دافع عاطفي.. والكتابة قد تكون أقل كلفة وصنعة من الشعر وبيانه. يقولون إن الشعر يأتي مع النكسات والهزائم، هل أصبحنا الآن أكثر راحة في العيش فأصبح الشعر لا يكون حاضراً بتلك القوة؟ - نعم إلى حد ما، الآن نفتقد الحدث الذي يجمع الشعراء ويقدح زنادهم، وأصبحت المواضيع تخلق لأجل ألا يفقد الشاعر لياقته وبحوره. شعراء نجد يقال كتاب «شعراء نجد المعاصرون» فريد من نوعه وأبان ما لم نطلع عليه؟ - صحيح «شعراء نجد» هو أول كتاب في نجد من نوعه عبر التاريخ، وهذا يمنحه الميزة الأهم، فلا يوجد أحد ألّف عن نجد قديماً ولا حديثاً شيئاً مستقلاً، خصوصاً عن الشعر، وفشلت في إقناع الملك سعود - رحمه الله - 1380ه عام 1960 بأن لا يخضع كتابي «شعراء نجد المعاصرون» لرقابة اللجنة الثلاثية التي عيّنها لفحص الكتاب، وإدخال التعديلات والتغييرات اللازمة، فرفضت هذا الشرط وطبعته في القاهرة على نفقتي على رغم قلة ذات يدي. والغريب في الأمر أنه سمح بدخوله المملكة من دون أن يُمسّ بسوء، مع ما فيه من نقد حاد في قسمه الدراسي، وفي تحليلي النقدي المكثف لشاعرية كل شاعر، ولعل السبب في ذلك أنه أول كتاب صدر في نجد خلال العصور الأخيرة، ولم توجد بعد وزارة الإعلام حينذاك، وبالمناسبة شعراء نجد هم أقوى شعراء السعودية، ولا أظن أن هناك أحداً استطاع سحب البساط منهم! وهم ما زالوا رواداً، ويمكن بعضهم أقل من بعض، ولكنهم ينافسون بعضهم البعض. الآن وسطنا الثقافي تغيّر عن أيامكم، فأصبحت هناك محاضرات تُمنع وأندية أدبية تُحرق؟ - لا بد أن توجد مشكلات بسبب عدم وضوح العلاقة بين المثقف والمتلقي، وهذه إفرازات من يسمونهم بالمتشددين سابقاً، إذ إنهم يتشنجون في نشر أي شيء لا يناسبهم، أو إذا أسهمت المرأة غضبوا، وكأن القيامة قامت، وفي عهدي في النادي الأدبي كنت أول من فتح للمرأة نافذة للإبداع وفق خصوصيتنا والتزامنا، وعلى رغم كل الاعتراضات، إلا أنهم لم تكن لهم أية سيطرة على أنشطتنا، فمن يريد رؤانا فليحضر، ومن يخالفنا فليناقشنا بعقل أو يغادرنا بهدوء! المتشددون والثقافة هل دخلت في حوارات معهم أو أنهم اشتكوك؟ - حصل شيء من هذا، ولكنني ما ألقيت لهم بالاً، أنا أعرف أنني إن شاء الله على حق وصواب، ولم أنحرف ولا حدت عن الدين ولا الأخلاق، وما نقدمه يتم في إطار الإباحة دوماً. وأثناء ما كنت رئيساً للنادي الأدبي في الرياض قرابة ربع قرن - وعلى إثر ما نشره الأشخاص المختلفون معي - في دعوتي لهم للمناظرة والحوار، وقرع الحجة بالحجة في مقر النادي وليس في الصحف. ولهم أن يحضروا بمفردهم أو مع من يشاءون من أنصارهم للمناظرة والحوار مع رئيس النادي ومجلس الإدارة، ليكون الجميع شهوداً على الطرف المقصر في أداء واجبه تجاه الطرف الآخر، ولكنهم لم يستجيبوا للحوار الهادئ العقلاني، ربما لأنهم في واد «يهيمون»، ليس وادي الشعر بل واد آخر! هل تشعر بأن وسطنا الثقافي له أسس سليمة، أم أنه خاضع لبعض الأشياء التي هي بعيدة كل البُعد عن الثقافة؟ - هناك شيء من الضياع أنا أسميه الضياع بين الثقافة الإيجابية والثقافة النافعة وبين ما يعتبروه شيئاً ثقافياً أو غير ذلك، لا أعرف عن توجهات بعض الشباب، لأنه حدثت تطورات في التقنية العلمية مثل الإنترنت وغيرها، وأصبحت هناك مجالات لتوسيع نطاق الثقافة، والإنترنت الآن تُنشر عليه قصائد كثيرة ودواوين شعرية، كما يُنشر عليها ما يحل وما يحرم، وما هو مقبول وما هو غير مقبول، واتسعت رقعة التعاطي مع هذه الجوانب الثقافية لما هو صالح وما هو طالح، لذا تكون المهمة أصعب في السيطرة على المنتج الثقافي. هل أنت مع وجود الحكومة مع الثقافة، أم يجب أن ترفع الحكومة يدها عن الثقافة؟ - لا هذا ولا هذا الوسط خير، أن تكون الثقافة حرة في حدود ألا يكون فيها ما يتعارض مع القيم الإسلامية، فنحن دولة إسلامية يجب ألا يكون في عطائنا أو في ما نقوله أو نكتب ما يتعارض مع الدين، هذا لا يجوز أبداً، وأي إنتاج يتعارض مع الدين يجب أن يمنع، لأنه من نشر الفساد في الأرض، ولهذا يجب منع الفساد في الأرض من نتاجات تحمل انحرافات فكرية أو هجوماً على الدين أو احتقاراً للشريعة الإسلامية، وكلها أعمال فاسدة ومفسدة. هل تتوقع أن المثقف يستطيع أن يستقل عن توجهات الحكومة؟ - المثقف الحق لا يحسب على الحكومة ولا على غير الحكومة، فهو حر في ما يقوله وفي ما يكتبه، بشرط أن يكون ما يقوله وما يكتبه غير مخالف للقيم عموماً. يشير بعض المثقفين السعوديين خصوصاً الجيل الجديد إلى أن كثرة الحلال والحرام ودخول الدين في كل شيء تعطلان الثقافة عندنا؟ - من حق الدين أن يُحمى من الأشياء التي تتنافى مع قدسيته ومع جوانبه، التي يجب أن تبقى حارسة للقيم والمثل العربية والإسلامية، لكن الوسط بين ذلك وهو الطريق الأمثل، وهي قد تعوقها موقتاً بعض المعوقات، ولكن كل آت لا بد أن يفرض نفسه، وأي جديد لا بد أن يأتي، ولا اعتقد وجود رأي ثابت مطلق، ودائماً هناك متغير، وكل يدلو بدلوه، وتكون الغلبة في ما بعد للحق إن شاء الله. مع أي القضايا «نشف ريقك» وجف حبر قلمك؟ - «نشف ريق» قلمي من كثرة ما كتبت وناشدت المسؤولين في الدولة والمجتمع بأن يلزموا الأجانب الذين لا يتكلمون العربية بتكلمها نطقاً مفهوماً وكتابة مقروءة - تدريجياً - وأن توضع لهذا التدرج مدة سنتين، ومن لا يتكلم العربية بعد السنتين الأوليين من وجوده في المملكة، فلا يجدد عقده إلا في حالات الضرورة القصوى. وإنه لمن المؤسف أن يترك الأجانب يستعملون في أرض لغة القرآن الكريم، لغات أجنبية عنها، ومن دون أن تصحبها العربية - على الأقل - ولو كمجاملة لأهل البلاد. إن كثيراً من الأمم التي تحترم نفسها ولغتها وثقافتها، تلزم المقيمين فيها بأن يكون التخاطب والتكاتب بلغتها القومية، فلماذا نحن العرب «استخذينا» للأجانب حتى في إبعاد لغتنا عن تعاملهم معها؟ أيضا أشعر بحسرة لأنني فشلت من ثنايا كتاباتي في إيقاف «جلد الذات العربية» من بعض الكتّاب والصحافيين، الذين تبنوا عبارة جانحة «العرب ظاهرة صوتية»، إذ أخذوا بدافع الحماسة يرجمون الأمة العربية، بما فيها وبما ليس فيها من عيوب وآثام، فأتاحوا بذلك لأعداء الأمة العربية والإسلامية حجة «وشهد شاهد من أهلها» لتحقير العرب والاستهانة بحقوقهم، وضربهم في كل مقتل، وها هي الشواهد المؤلمة واقع نتجرع غصصه في كل شبر من أراضينا العربية، لقد فتحنا بجلد ذاتنا العربية باب الجحيم على أمتنا من أعدائها المتربصين بها عبر الحقب والأزمات. سيرتك الذاتية لماذا لم تبصر النور حتى الآن؟ - للأسف لم أستطع حتى اليوم تسجيل أو كتابة سيرة حياتي الذاتية العامة، أو ما يتصل منها بالحياة الفكرية والثقافية والإعلامية، وهي حياة يتهمها البعض، أو يصفها بأنها خزانة مليئة بالكثير مما يجب أن يكتب، مما يعلم ومما لا يعلم. هكذا يقولون والله أعلم. قبل الختام متى آخر مرة سمعت صوت عبدالله بن خميس؟ - لا أتذكر، ولكن في العام الماضي كان هناك احتفال بالمتقاعدين، وكان الكرسي الخاص بي مجاوراً لكرسي عبدالله بن خميس وسلمنا على بعض، وعندما توفيت زوجته - رحمها الله - منذ أكثر من ثلاث سنوات أو أكثر ذهبت له، وقدمت له واجب العزاء، فأنا ليس في نفسي شيء عليه، ولا اعتقد أن في نفسه شيئاً عليّ، وكلها تراشقات حدثت بيننا. هل تعتذر عن هذه المراشقات؟ - إذا اعتذر هو أنا اعتذر.