عليّ أن أشكر جائزة بوكر للرواية العربية، على كلّ هذه الحركة التي صنعتها في بركة حياتنا الثقافية الرّاكدة. وعليّ أن أشير بداية أنه حراك ما كان ليحدث بهذا الزّخم لو لم تكن البوكر كجائزة قد نهضت على مراحل ثلاث، القائمة الطويلة، ثم القصيرة، ثم اختيار الرّواية الفائزة، بل إنني سأسارع لأزيد أن تلك المراحل قد وجدت قدرتها على تحريك الرّاكد من خلال إعلانها على القرّاء، ومعها إعلان أسماء أعضاء لجنة التحكيم. هكذا دخلنا ككتاب ومثقفين وقرّاء اللّعبة، وانتقلنا مع كلّ قائمة إلى مساحة الجدل والرّهانات، أي المشاركة في محاولة معرفة النتائج. لا يعني هذا أن النتائج كانت تتطابق بالضرورة مع تلك التي حدّدناها في خياراتنا، فقد كنت مثلاً أنتظر وصول روايتي الصديقين حسن داود «مئة وثمانون غروباً»، والزاوي أمين «شارع إبليس»، وهو ما لم يحدث، وإن كنت لم أعتبر عدم حدوثه «مؤامرة محبوكة»، وأحلت السبب برمّته إلى اختلاف الذائقة، وإلى حقّ لجنة التحكيم في اختيار ما تراه مناسباً بتوافق أعضائها. أقول ذلك لولوج المساحة الشائكة من الإشاعات والثرثرات والنميمة، التي انطلقت قبل إعلان القائمة الأولى الطويلة والتي أعلن أصحابها أن «اجتماعاً رباعياً» عقد وتمّ الوافق خلاله على منح الجائزة لهذه السنة للكاتبة اللبنانية علوية صبح عن روايتها «إسمه الغرام»، وهو إلاعلان الذي كان يتكئ على ترشيح ناقد متنفذ لتلك الرواية، بل واستماتته في الدفاع عنها إلى الحدّ الذي دفعه لشتم لجنة التحكيم ورئيسها واعتباره روائياً من «الدرجة الثانية»، قافزاً عن دراسات نقديّة جادّة كان هو نفسها قد كتبها ونشرها في مديح أعمال رئيس اللّجنة. اللاّفت هنا أن الكاتبة التي جرت «الاشتباكات» من حول روايتها، دخلت بدورها ساحة المعركة انطلاقاً من فكرة لا ندري من أين أتت، ومضمونها أن روايتها هي الأحقُ، وأن عدم وصولها الى القائمة القصيرة، كان مؤامرة مدبّرة، بل إن من قرأ تصريحاتها يشعر أنها أطلقتها وهي تعيش حالة من فاز بالجائزة ثم تفاجأ بسرقتها منه. لا أعرف لماذا ذكّرتني تلك التصريحات ببرنامج المسابقات الغنائية في تلفزيون المستقبل «سوبر ستار» والمماحكات الكثيرة التي ترافق نتائجه عادة، وبالذات النسخة الأولى منه، والتشكيك في تلك النتائج. مع ذلك صمدت بوكر في نسختها الثالثة، على رغم انسحاب عضو لجنة التحكيم شيرين أبو النجا، التي أعلنت إثر استقالتها أنها فعلت ذلك بسبب «غياب المعايير النقدية» من عمل لجنة التحكيم ولم تنس أن تعلن – خلافاً لتقاليد وأمانة عمل لجان التحكيم – أنها تعترض على روايتي ربيع جابر «أمريكا» وربعي المدهون «السيدة من تل أبيب»، فقالت في شأن الأولى أسباباً فنيّة، فيما اتهمت الثانية بأنها «تكرّس صفحات لمديح زعيم عربي راحل»، وهي اتهامات ما لبثت مقالة للزميل عبده وازن في «الحياة» أن دحضتها نهائياً، فتبين أن الصفحات التي قالت انها كرّست لمديح زعيم عربي راحل لم تكن غير سطور قليلة يتحدث خلالها بطل الرواية عن مدينة سكنية في غزة، أعجبته وقيل له إنها «مدينة الشيخ زايد» التي بنيت لأسر الشهداء بتبرعات من دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما اعتبرته أبو النجا «مديحاً لزعيم عربي راحل» بل ما طوّرته بعد ذلك مضخّماً حين تساءلت أمام جمع من الحضور في ندوة في القاهرة: هل لو كتب أحدهم رواية في مديح حسني مبارك تقبلون أن أمنحه الجائزة؟ مع ذلك أثارت الجائزة ومنذ البداية سلسلة من التصريحات الكوميدية، ولكن المحزنة للأسف، لعلّ أشهرها تصريحات الرّوائي المصري إبراهيم عبدالمجيد الذي اعتبر وصول أقل من سبع روايات مصرية الى القائمة الطويلة مؤامرة على مصر، ولم ينس أن يقترح نظاماً جديداً للبوكر يقوم على منح جائزتها الأولى بالتناوب بين المشرق والمغرب، فتمنح لكاتب عربي مشرقي في سنة، لتمنح لآخر من بلدان أفريقيا العربية في السنة التي تليها، وهي اقتراحات كما هو واضح لا ترتقي حتى الى مستوى مناقشتها، أو أخذها على محمل الجد، خصوصاً أن عبدالمجيد اختتم تصريحاته النارية تلك بتأكيده أنه لن يسأل أعضاء لجنة التحكيم عن سبب استبعاد روايته، ولكنه سيسألهم عن أسباب اختيارهم للروايات الأخرى التي وصلت الى القائمة القصيرة! في النهايات لم تكن المسألة مختلفة، فكما بدأت بمن ظنّت أن روايتها هي الفائزة، كان هناك من يؤكد أنه كان المرشّح للفوز لولا... رغبت أن أعود الى تلك الأجواء لا للإشارة إلى ملائكية البوكر كجائزة ومسابقة، ولكن لرؤية المشهد الثقافي العربي في حالاته الأكثر بؤساً والأشد مدعاة للحزن، فمن المفارقات المحزنة حقاً أن يجري كل ذلك اللّغط عن جائزة تجري نقاشات نتائجها في العلن، ونعرف رواياتها المتسابقة، وأسماء المحكّمين، فيما لا نسمع كلمة واحدة تسأل عن كيفية منح الجوائز الأدبية الأخرى، أو أسماء أعضاء لجانها التحكيمية إن كان من لجان لها أصلاً. أضفت أحزان بوكر الى أحزان «أم المعارك الكروية» في أعقاب مباراة كرة القدم المشؤومة بين المنتخبين المصري والجزائري، وقد هالتني وقتها تصريحات بالغة العنصرية لبعض كبار المثقفين، الذين وجدوا أنفسهم وبجرّة قلم في خندق واحد مع نظامهم السلطوي الذي يعلنون عادة تنصّلهم منه ومن سياساته. ذلك والحق مروّع، بل هو يدفع إلى الاعتراف بحقيقة بالغة الرّداءة: الثقافة في معظم الحالات مجرّد قشرة خارجية، لا تلغي هشاشة الوعي، ولا تحصّن صاحبها من السقوط في الشعبوية على النحو الذي رأيناه في معركة بوكر، وقبلها على النحو الذي دفع كتاباً ومثقفين إلى إلغاء عقولهم والاقتناع فعلاً بأن صدام حسين سيلقن الولاياتالمتحدة درساً عسكرياً قاسياً لا تنساه. عليّ أن أهنئ الكاتب السعودي عبده خال على فوز روايته «ترمي بشرر» بجائزة بوكر للرواية العربية، وعلينا جميعاً أن نفرّق بدقة ووعي كاملين بين نقد ما نراه من ثغرات في الجائزة، وبين التطيّر من مؤامرات تحاك في الظلام لتربيط النتائج والاتفاق على توزيعها. لقد كانت نكتة حقاً أن يدور الحديث عن مؤامرة كبرى للاتفاق على نتائج ترضي جهات وحكومات، ومبعث النكتة اقتناعي بأن لا مؤامرة يمكن أن تشارك فيها حكوماتنا الرّشيدة من أجل اختيار ست روايات للقائمة القصيرة لا يتمتع أصحابها بأي نفوذ في بلادهم، إن لم نقل انهم جميعاً من المهمّشين بالمعنى الذي يشير إلى النفوذ، وإن كانوا فاعلين في الحياة الثقافية ويؤشرون إلى المستقبل. * كاتب فلسطيني