«مبدأ بوتين» هو الذي يهيمن على الاتصالات الدولية - الإقليمية بحثاً عن تسوية سياسية في سورية، كانت ترجمته الأولى في «بيان فيينا» الصادر من «مجموعة الاتصال». انه خطوة صغيرة في مسيرة طويلة ومعقدة قد تتعرض إلى كثير من التحديات والمطبات، أولها أن المبادئ التسعة التي وافق عليها ممثلو الدول المشاركة، تحمل في طياتها تناقضاً بين «أقوال وأفعال» الدول المباركة. في صباح القمة بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين في نيويورك نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، التقى وزراء خارجية «النواة الصلبة» في «مجموعة أصدقاء سورية» شارك تسعة وزراء بعد إبعاد مصر وإيطاليا. طرحت في هذا اللقاء فكرة، مشاركة الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية وأبدت دول أوروبية وإقليمية «ليونة» في ذلك، شرط الحصول على «موعد وتاريخ» خروج الرئيس الأسد من السلطة. رد وزير الخارجية الأميركي جون كيري على أسئلة زملائه، في أنه وعد الوزراء بالعودة بعد لقاء أوباما - بوتين ب «تاريخ محدد لخروج الأسد». لكن عندما اجتمع مع الوزراء في نيويورك لاطلاعهم على نتائج القمة الأميركية - الروسية عاد خالي الوفاض، بل انه فوجئ كغيره في عمق التدخل العسكري الروسي مع أن واشنطن كانت تبلغت قبل أسبوعين بالاستعدادات العسكرية الروسية. لم تعد تخفي موسكو نياتها. جاءت قواتها لمنع انهيار القوات النظامية ووقف تقدم مقاتلي المعارضة والفصائل الإسلامية إلى معقل النظام في الساحل غرب البلاد و «حماية دمشق من الوقوع تحت سيطرة داعش»، إضافة إلى تعزيز النفوذ الروسي في الشرق الأوسط واستخدام سورية منصة في النظام الدولي الجديد وصوغ نظام الشرق الأوسط من ركام الدول المجروحة و «الهويات القاتلة». أضاف التدخل العسكري ثقباً إضافياً في جدار الثقة المفقود بين واشنطنوموسكو، كما انه عزز الانقسام داخل الإدارة الأميركية إزاء كيفية التعاطي مع التحدي الروسي. لكن هذا الانقسام بقي محكوماً دائماً بشخصية أوباما المترددة وحساباته القائمة على الانسحاب العسكري من الشرق الأوسط والاكتفاء بإرث مبني على التطبيع مع كوبا وتوقيع الاتفاق النووي الإيراني وتحسين الوضع الاقتصادي الداخلي. لا يريد أوباما أن يذكر في التاريخ ك «شاهد على اكبر كارثة إنسانية في التاريخ الحديث» في سورية. هناك جوع لديه لإطلاق عملية سياسية تخفف من هذه النقاط السوداء. وبوتين «المغامر» مدرك لهذا. هو وحلفاؤه يضغطون على أوباما حتى النفس الأخير في سنته الأخيرة. انه «مبدأ بوتين». في سورية، ابلغ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ومساعدوه زوارهم الأميركيين والدوليين والسوريين: «في الكرملين هناك خط احمر واحد لا يمكن التزحزح عنه. لن نقبل تغيير الأنظمة من الخارج». وعندما يخوض التفاوض الأميركي- الروسي في التفاصيل حول «مصير الأسد ودوره في المرحلة الانتقالية»، يرد الروس: «الأسد كان حليفكم وبوتين ليس مغرماً به ولا ينسى انه تأخر في زيارة موسكو خمس سنوات، لكن الكرملين يدافع عن مصالح روسيا ومبادئ في العلاقات الدولية». هذا يعني تفصيلاً: «ذهاب الأسد يعني انهيار المؤسسات وتشظّي الجيش وتكرار نموذج العراق الذي لا يريد الأميركيون تكراره». وعندما يواجه أميركيون نظراءهم الروس بانه بعد التدخل العسكري باتت موسكو «تمون» اكثر على النظام وحامية للعلويين والأقليات وحارسة للجيش والأمن «ما يسهل التخلي عن الأسد»، يعود المسؤولون الروس إلى القول انه «على الغرب التخلي عن المبدأ الإمبريالي في تغيير الأنظمة خصوصاً بعد فشله في العراق وليبيا»، بل إن بعضهم كان اكثر حدة: «انتم تريدون التخلص من الأسد وتريدون منا القيام بذلك وتقولون إن لدينا قدرة على فعل ذلك. نحن نقول إننا لا نريد التخلي عن الأسد». وصل النقاش الصريح إلى الاتفاق والتفاهم: «دعونا نتفق على تصميم آلية. دعونا نركز على العملية. على توفير منصة للسوريين كي يقررون. دعونا نفكر بالآلية بعيداً من الأشخاص. دعونا نصمم منصة تؤدي إلى نظام سياسي جديد وعقد اجتماعي جديد» في سورية. كان هذا جزءاً من تفاهمات «الرباعية» الأميركي- الروسي- السعودي- التركي في فيينا. حاول النظام في دمشق الدخول بين شقوق المواقف الدولية والإقليمية، مقترحاً تصوره للحل عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء حوار سوري- سوري وإجراء إصلاحات سياسية و «مراجعة» الدستور وصولاً إلى انتخابات برلمانية قبل تكون مبكرة. كما حاولت إيران أن تضع نفسها في منصة النقاشات عبر اقتراح مبادرة النقاط الأربع: وقف فوري للنار، حكومة وحدة، تعديل الدستور بما يضمن حقوق الأقليات والمكونات، وانتخابات برقابة دولية. اللعبة الروسية أكبر من حسابات النظام وإيران. لم تكن موسكو مرتاحة لصيغة «الرباعية» الدولية - الإقليمية ولا الصيغة الثلاثية التي ضمتها مع واشنطن والرياض، لأن الجانب الروسي كان يرى موقفه معزولاً. استعجلت الوصول إلى «مجموعة اتصال موسعة» وضمت إيران ومصر وإيطاليا ودول أخرى أقرب إلى تصورها للحل. وهذا ما حصل في «فيينا-2». بحسب مشاركين في الاجتماع، فان الاجتماع حقق أهدافه: الأول، الحوار الأميركي - الروسي وتخفيف عدم الثقة بين الطرفين. لذلك جلس لافروف في المقعد الخلفي وترك القيادة إلى لافروف. أراد أن يعزز دور كيري في إدارته بعدما بات اللاعب الأساسي في الملف السوري في الإدارة الأميركية. الثاني، جلوس دول إقليمية فاعلة وجهاً لوجه وتحت سقف واحد كي يقدم كل طرف وجهة نظره. أول لقاء من نوعه في منصة دولية - إقليمية - أممية كهذه. الثالث، تعزيز التفويض الممنوح للأمم المتحدة بعد البيان الرئاسي لمجلس الأمن في آب (أغسطس) الماضي ودعوة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وفريق عمله لجمع الفرقاء السوريين والتوفيق بين ذكر «بيان جنيف» وتجاهل «الهيئة الانتقالية» والعمل ل «حكم تمثيلي وغير طائفي». الرابع، الاتفاق على تسعة مبادئ للحل السوري أو ل «اليوم التالي» أو «سورية المشتهاة». وتضمن «بيان فيينا» تسعة مبادئ بينها «وحدة الدولة السورية واستقلالها وسلامة أراضيها» و»الإبقاء على مؤسسات الدولة» وان «تكون العملية السياسية عملية سورية وبقيادة سورية والشعب السوري هو الذي سيقرر مستقبل سورية» وان «يعمل المشاركون مع الأممالمتحدة لاستكشاف وتطبيق صيغ لوقف إطلاق النار في كافة أنحاء البلاد، يبدأ العمل بها بتاريخ محدد وبالتوازي مع استئناف العملية السياسية». أهمية إعلان هذه المبادئ، أنها تتضمن ضمناً الاعتراف أن بعض هذه الدول كان يعمل خلال خمس سنوات على عكس هذه المبادئ. وتكرار كلمة «سورية» كأنه يعكس الاعتراف بمصادرة رأي السوريين. بعض الدول كان يعمل على «تقسيم سورية» إلى أقاليم. وبعضها كان يعمل على «خطة-2» بحيث يحافظ على مصالحه بعيداً من سورية الموحدة. كما أن دولاً كانت تؤسس ميليشياتها لإضعاف مؤسسات الجيش وتخلق «نظام ظل» على انقاض ما تبقى من النظام. وافق الحاضرون على أن «العملية السياسية سورية وبقيادة سورية»، في وقت لم يكن أحد من السوريين حاضراً في هذا الاجتماع. مرة أخرى، سياسية بالوكالة طالما أنها «حرب بالوكالة». التحدي الأهم لهذه الدول يتعلق بالمبدأ الآخر: الانتخابات. لا شك أن الاتفاق على إجراء انتخابات ب «إدارة ورقابة دولية»، أمر جوهري. أن يعطي السوريون إمكانية تقرير مستقبلهم أمر مصيري. وهذا ما يريدوه معظم السوريين بصرف النظر عن موقفهم السياسي. لكن: ماذا لو صوت السوريون غير إرادة الدول المتصارعة؟ هل سيقبل الروس أن يصوت السوريون لمرشح آخر غير الأسد؟ هل سيقبل الأميركيون أن يصوت السوريون لبقاء الأسد؟ هل يقبل كيري أو خليفته لو نتج من عملية الانتخابات نظاماً غير علماني، خصوصاً أن كيري نفسه هو من أضاف بقلمه كلمة «علماني» إلى «بيان فيينا»؟ المشكلة في هذه المبادئ، أنها صيغت ووافق عليها ممثلو الدول، بينما يعمل كل طرف على أن تؤدي العملية السياسية إلى النتائج التي يريد أن تؤدي الآلية إلى «سوريته المشتهاة». لذلك إلى الآن لم يتخل أي طرف عن وسائل الضغط العسكري. روسيا تزيد غاراتها وقصفها والوجود العسكري ودعم النظام. وإيران تزيد عدد «الخبراء العسكريين». وأميركا وحلفاؤها يزيدون دعم المعارضة تسليحاً ومالاً. أحد المبادئ هو العمل على «وقف نار شامل»، بينما يتصرف كل طرف عسكرياً كأنه ليست هناك عملية سياسية وليست هناك «مبادئ فيينا». انه تفاوض تحت النار مرة أخرى. لذلك، لم يكن هناك انتقاد كبير من الوزراء الحاضرين بمن فيهم كيري للانخراط العسكري الروسي. ولم تكن هناك ضجة روسية كبرى لدى قرار أوباما إرسال مستشارين عسكريين إلى شمال شرقي سورية. * صحافي سوري من أسرة «الحياة»