أتت نتائج الانتخابات التي شهدتها تركيا مفاجئة ومخالفة لكل التوقّعات واستطلاعات الرأي، حتّى التي أجرتها شركات مقرّبة من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم. بالتوازي مع ذلك، ثمة انتكاسة كرديّة واضحة، لا يمكن إغفالها أو التغطية عليها عبر سرد المبررات والمسوّغات الجوفاء التي اعتدنا على سماعها. ففي انتخابات حزيران (يونيو) الماضي، حصل حزب «الشعوب الديموقراطي» (الفرع العلني لحزب العمال الكردستاني) على 13 نقطة خوّلته حصد 80 مقعداً برلمانياً. في تلك الانتخابات، وظّف «الكردستاني» محنة مدينة كوباني (عين العرب) إلى الحدود القصوى في الدعاية الانتخابيّة المضادّة ل«العدالة والتنمية» لجهة تأكيد ضلوع الأخير في دعم التنظيمات الإرهابيّة والتكفيريّة، بخاصّة «داعش». جاء الانتصار السابق ل»الكردستاني» على جثّة «كوباني». بينما في انتخابات 1/11/2015، صحيح أن «الكردستاني» حافظ على اجتيازه لحاجز ال10 في المئة، إلاّ أنه فقدَ ما يناهز (2,3) نقطة جعلته يخسر ما يزيد على 20 مقعداً، ذهبت ل»العدالة والتنمية». وعليه، ساهم «الكردستاني» بممارساته وسياساته الخاطئة داخل وخارج تركيا في انتصار حزب أردوغان. ويمكن تلخيص هذه الأخطاء القاتلة بالتالي: أولاً: في انتخابات حزيران، أصيب «الكردستاني» بما يشبه نشوة النصر التي أفقدته صوابه. فصار يتصرّف بغطرسة وعنف مع الكرد الموالين ل«حزب الله» التركي، و«العدالة والتنمية»، بدلاً من جذبهم وكسبهم. ذلك أن «حزب الله» دخل الانتخابات السابقة بلائحة مستقليّن، وفشل في تمرير مرشّحيه للبرلمان. وقاطع الانتخابات الأخيرة، فعادت أصوات الموالين له، وبزخم أكبر إلى «العدالة والتنمية»، نتيجة المصادمات التي شهدتها المناطق الكرديّة بين «الكردستاني» و«حزب الله». ثانياً: انزلق «الكردستاني» إلى الفخ الذي نصبه له «العدالة والتنمية» عبر جرّه لردود أفعال عنيفة على خلفية دعم «العدالة والتنمية» لتنظيم «داعش» والتفجيرات التي استهدفت الأكراد، بخاصة تفجير «سروج» على حدود كوباني. هذه التفجير الإرهابي، والهجمات الجويّة التركيّة على معاقل «الكردستاني» في جبال قنديل، دفع الأخير إلى تعليق الهدنة، والقيام بأعمال عسكريّة، عززت موقف «العدالة والتنمية» أكثر، بوصفه ضابط وضمانة الأمن والاستقرار في تركيا. وفي الوقت عينه أحرجت أعمال العنف هذه، حتى ولو كانت ردّ فعل على ممارسات «العدالة والتنمية»، «حزب الشعوب الديموقراطي» ووضعته في زاوية ضيقة وفي مواجهة مباشرة مع الدولة والشارع الإسلامي والقومي. وعاد «الكردستاني» إلى تعليق العمل المسلّح، في نفس يوم تفجير أنقرة، كي تمرّ الانتخابات بسلام. ولكن هذه العودة للهدنة كانت متأخّرة. وبالتالي، تصرّف «الكردستاني» في فترة ما بعد انتخابات حزيران، وفق ما يشتهيه حزب «العدالة والتنمية»!. ثالثاً: فوّت «الكردستاني» على نفسه فرصة ذهبيّة، عقب انتخابات حزيران. إذ كان بإمكانه الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب أردوغان، حين كان الأخير ضعيفاً، ويمكن فرض بعض الشروط الكرديّة عليه. ولكن «الكردستاني» وكي يرضي «شرذمة» من الشخصيات والجماعات اليساريّة التركيّة المتحالفة معه، رفض الدخول في أيّة حكومة ائتلافيّة مع «العدالة والتنمية» فور إعلان نتائج انتخابات حزيران. ولو وافق على الحكومة الائتلافيّة، لكان «الكردستاني» الآن يقود تركيا، بالشراكة مع «العدالة والتنمية». رابعاً: خارجيّاً، سعى «الكردستاني» إلى استفزاز الحكومة التركيّة، داخل الأراضي السوريّة إلى الحدود القصوى، عبر التنسيق مع نظام الأسد. وكان آخر هذه الاستفزازات، إعلان منطقة «تل أبيض»، كانتوناً، وضمها إلى «كوباني» الخاضعة لسيطرته عبر فرعه السوري (حزب الاتحاد الديموقراطي). هذا الإعلان، كان بمثابة هديّة قدّمها «الكردستاني» على طبق من ذهب لأردوغان، كي يلعب على وتر الأمن القومي التركي والمخاوف التركيّة من قيام كيان كردي على الحدود الجنوبيّة. وقد نجح «العدالة التنمية» في استنهاض الشعور القومي، إلى درجة كسبه الكثير من أصوات ومقاعد حزب «الحركة القوميّة» التركي المتطرّف. وكان بإمكان «الكردستاني» تأجيل إعلان «تل أبيض» كانتوناً، لما بعد انتخابات 1 تشرين الثاني (نوفمبر)، لئلا يصبح ذلك مادّة للدعاية الانتخابية لحزب أردوغان. خامساً: أيضاً خارجيّاً، انزلق «الكردستاني» نحو التناقضات والمماحكات بين أنقرة من جهة وواشنطن وموسكو وطهران من جهة أخرى. بحيث استفاد «العدالة والتنمية» من ذلك، كي يظهر «الكردستاني» على أنه «عميل» للخارج و»متآمر» على الدولة. ذلك أن «الكردستاني» ربما توّهم أنه وصل إلى درجة «الحليف» لواشنطن وموسكو، وصار يوحي بالاستقواء على أنقرة بهاتين العاصمتين. قصارى القول: صحيح أن «العدالة والتنمية» استخدم كل مؤسسات الدولة الأمنيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة في خدمة حملته الانتخابيّة. وصحيح أنه مارس العنف وإرهاب الدول ضد الكرد، ودعم «داعش» واستثمر الدين، كعادته، في هذه الانتخابات. ولكن صحيحٌ أيضاً أن الكردستاني، بأخطائه وتصرّفاته الرعناء، وعدم قراءته الصحيحة لنتائج الانتخابات السابقة، تحول بمثابة «الحليف الخفي» لحزب أردوغان. واعتقد أن إبقاء «الشعوب الديموقراطي» في البرلمان، يمكن تفسيره أنه بمثابة «شعرة أردوغان» التي لا يريد الأخير قطعها مع «الكردستاني». وكان بإمكان أردوغان توتير الأوضاع، وتسميم المناخات في المناطق الكرديّة أكثر، بحيث يحرم المواطن الكردي من الإدلاء بصوته نهائيّاً. وما كان أحد ليحاسب أردوغان على ذلك، لا في داخل تركيا أو خارجها. بمعنى لو أراد أردوغان حرمان الكرد من التواجد داخل البرلمان، كما كانت تفعل الحكومات التركيّة السابقة، في حقبة التسعينات، لفعل. أعتقد أن أردوغان يريد اللعب بالورقة الكرديّة، في مواجهة المعارضة وعلى الصعيد الإقليمي أيضاً. من جهة أخرى، لا يمكن إغفال مسألة أن حال حزب «الشعوب الديموقراطي» هو كحال الأحزاب التركيّة في حقبة الثمانينات والتسعينات، حين كان الجيش يتحكّم بتلك الأحزاب. فالقادة الحقيقيون ل»الشعوب الديموقراطي» هم العسكر الكرد في جبال قنديل. بخلاف «العدالة والتنمية» الذي صار يقود العسكر التركي. وعليه، قيادة «الكردستاني» العسكريّة لا تترك هامش المبادرة الحرة ل»الشعوب الديموقراطي»، تماماً كما كان يفعل الجيش التركي مع الأحزاب والحكومات التركيّة السابقة. والسؤال هنا: إلى متى سيبقى «الشعوب الديموقراطي» على هذه الحال من التبعية والطاعة العمياء لقيادة «الكردستاني»؟. وهل سيكرر الأخير أخطاء مع بعد انتخابات حزيران الماضي؟ أم أنه سيحافظ على ما حصل عليه في 1/11/2015، وهو المتبقي من المكاسب السياسيّة التي حققها في انتخابات حزيران الماضي؟، وهل سيجنح في شكل نهائي إلى صناديق الاقتراع بدلاً من التعويل على صناديق البارود؟ * كاتب كردي سوري