يعود السبب في انحسار شعبية كاداريه في ألبانيا أخيراً إلى صدور كتاب عنوانه «ليالي مولدافيا» صدم الرأي العام في هذا الصيف لكونه يكشف عن جانب معتم في مكانة كاداريه في النظام الشمولي السابق ورغبته في تشويه زملائه من الكتّاب لكي يبقى هو الأهم. كان النظام الشمولي يعتمد على الكتبة أو الكتّاب لتشويه سمعة الكتّاب الكبار الذين يشك في ولائهم المطلق له. كانت هذه حالة الكاتب ميتروش كوتيلي، الذي يعتبر من رواد الأدب الحديث في ألبانيا والذي كان يُنظر له باحترام حين كان كادرايه في بداياته الأولى، ولكن نظام أنور خوجا أراد أن يتخلص منه فدفع من يشيع الإشاعات الكاذبة تمهيداً لتصفيته. وبعد موت خوجا الذي كان من المعجبين بكاداريه، جاء رامز عليا ليطلق نسمة من الحرية سمحت بإعادة الاعتبار إلى كوتيلي وإعادة طبع أعماله المختارة في خمسة مجلدات عام 1988. ولكن إعادة الاعتبار إلى هذا الكاتب المبدع أزعجت كاداريه فلفّق له تهمة كبيرة تقول انه كان الكاتب والألباني الوحيد الذي حارب مع النازيين في ستالينغراد ضد الجيش السوفياتي البطل. ولنا أن نتخيل في نظام شيوعي شمولي ماذا تعني هذه التهمة. وفي هذه السنة انحسرت توقعات الصحافة الألبانية («شكولي» عدد 7/10/2015 وغيرها) عشية الإعلان عن اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب ولم تضع كاداريه ضمن الأسماء الأولى المرشحة للجائزة، وهو ما يعكس مزاجاً غير مسبوق بالنسبة لكادريه المرشح المزمن للجائزة منذ عهد النظام الشمولي الذي كان يسعى بكل وسيلة لترويج كاداريه خارج ألبانيا. وقرأنا في مقالة عن كاداريه بعد فوزه بجائزة «أورشليم» الإسرائيلية (جريدة «البيان» عدد 2/3/2015) عن سعي السفير الألباني في القاهرة في منتصف ثمانينات القرن الماضي لطلب أسماء مترجمين مصريين لترجمة أعمال كاداريه. وكان كاداريه في سنة سابقة، حين كان اسمه في طليعة المرشحين، قد فسّر عدم حصوله على الجائزة آنذاك بموقفه من كوسوفو قبل حرب 1999 وبعدها، مما جرّ عليه بحسب رأيه نقمة المعارضين لحرب 1999 وانفصال كوسوفو عن صربيا. ولذلك يبدو بوضوح أن شعبية كاداريه في كوسوفو أكثر مما هي في ألبانيا المجاورة وتربطهما ثقافة واحدة، وبقيت الصحافة الكوسوفية متفائلة كعادتها في حصول كاداريه على جائزة نوبل حتى اللحظة الأخيرة. وعودة إلى الكتاب الجديد: كان كوتيلي المولود باسم ذيميتر باسكو في 1907 في جنوبألبانيا قد عبّر عن مواهب أدبية مبكرة خلال دراسته في المدرسة ولكن لم تسنح له سوى فرصة متابعة الدراسة في رومانيا حيث حصل في 1934 على الدكتوراه في العلوم المصرفية وبقي في بوخارست يعمل هناك ويتابع إنتاجه الأدبي بالتواصل مع ألبانيا ونظراً لحصوله على الجنسية الرومانية فقد سيق في 1941 مع الجيش الروماني إلى القتال في الجبهة الأوكرانية للقتال ضد الجيش السوفياتي ولكنه انسحب وعاد إلى ألبانيا في أيلول (سبتمبر) 1942 حيث عُيّن مستشاراً في البنك المركزي وتابع نشاطه الأدبي في بلده الأم. ومع وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم في خريف 1944 برز اسم كوتيلي بسرعة في المجال المصرفي والأدبي ضمن النخبة الشيوعية الجديدة الحاكمة. فقد عُيّن مديراً في البنك المركزي وأصدر مجموعة من الكتب خلال 1944-1946 التي جعلته نجماً في سماء الشعر والقصة والنقد (آغو يعقوب وقصص أخرى 1944، هجوم ودوع 1944، قبلا، آغا وشعبان بلاتا 1944، ملاحظات أدبية 1944، حب البربري يرتان للجميلة غلاتيا 1946). وفي هذا السياق ساهم كوتيلي في تأسيس «اتحاد الكتاب والفنانين الألبانيين» في 1945 وكان ضمن لجنته الإدارية الأولى. ولكن كوتيلي قدّم فجأة استقالته من منصبه في 1946 احتجاجاً على الاتفاق الذي وقعته الحكومة مع الحكومة اليوغوسلافية الذي اعتبره ضاراً بألبانيا. ونظراً لأن الاستقالة في النظام الشمولي تعتبر عملاً عدائياً فقد اعتقل في 1947 بعد تسريب بعض الإشاعات الكاذبة عنه وحكم عليه بالسجن باعتباره «عدو الشعب» وعاش بقية حياته في ظروف صعبة إلى أن توفي في 1967. ومع انقضاء عهد أنور خوجا في 1985، الذي كان كاداريه من نجومه، بادرت مجموعة من الكتّاب لتستغل الانفتاح الحذر للقيادة الجديدة وتقوم بإعادة الاعتبار لميتروش كوتيلي وإصدار مختارات من أعماله الأدبية في 1988 ولكن كاداريه لم يشعر بالارتياح لذلك لأنه قد يكشف عن الجوانب المعتمة لعهد أنور خوجا فلفّق تهمة كبيرة ضد كوتيلي في ألبانيا وفي كل أوروبا الشرقية، وهو ما يكشف عنه الكتاب الصادم الذي كتب مقدمته ابن وابنة كوتيلي، وضمّناها شهادتهما عما قام به كاداريه ضد أبيهما، والذي صدر بعنوان «ليالي مولدافيا» وتضمن عدّة قصص وقصائد تُنشر لأول مرة مع رسالتين تنشران لأول مرة أيضاً. في هذا الكتاب تروي ابنة كوتيلي كيف أن صديق والدها الأديب والمترجم المعروف يوسف فريوني الذي كان في ثمانينات القرن الماضي يترجم أعمال كاداريه فاجأها بسرّ في ربيع 1988 ألا وهو أنه يترجم دراسة لكاداريه إلى الفرنسية يرد فيها أن والدها كان مجنداً في «الحرس الحديدي» وأنه «كان الألباني الوحيد الذي شارك في معركة ستالينغراد». كانت دراسة كاداريه مقدمة لأعمال الكاتب الألباني ميجيني (1911-1938) التي ستصدر بالفرنسية ولذلك رجاها ألا تذكر ذلك لأحد بل يمكن لها أن تلجأ بوسيلة ما إلى دار النشر التي تطبع هذا الكتاب (8 ننتوري). ونظراً لأن أختها كانت تعمل في قسم الطباعة بهذه الدار فقد استغلت ثقة صديقتها التي كانت تطبع هذا الكتاب بالفرنسية وقامت بتصوير الصفحة التي ورد فيها ما لفّقه كاداريه عن والدها. ومع أن العائلة نُصحت ألا توصل الأمر إلى كاداريه خوفاً من رد فعله باعتباره كان يتمتع آنذاك بسلطة قوية، إلا أن الابنة قررت أن ترسل هذه الصفحة مع توضيحات الأسرة عن والدها التي تكذّب ذلك. ولكن بعد شهور من الصمت المريب صدر الكتاب المنتظر بالفرنسية لكاداريه، وتبيّن أن كاداريه عدّل الجملة المسيئة إلى والدها ولكنه مع ذلك قال عوضاً عنها «إن كوتيلي اقترب من ستالينغراد مع الجيش النازي». ومع أن كوتيلي أعيد له الاعتبار كاملاً بعد سقوط النظام الشمولي في 1990 وأقيمت له التماثيل وسُميت باسمه الشوارع والمنشآت، إلا أن الأسرة أساءها أكثر الكتاب الأخير لكاداريه «صباحات مقهى روستان» الذي صدر في 2014 وأساء فيه كاداريه لجملة من الأشخاص، وأورد فيه كاداريه عن كوتيلي: «بحسب إشاعة غير موثوقة كان الكاتب الوحيد ليس في ألبانيا بل في كل المعسكر الاشتراكي وربما في العالم الذي شارك في معركة ستالينغراد إلى جانب النازيين». وبسبب هذا المقطع قررت الأسرة أن تصدر هذا الكتاب وتروي حكاية الأب الضحية مع كاداريه، الذي لم يكتف بما حدث لكوتيلي خلال 1947-1967 على يد النظام الشمولي بل أراد أن يكرس ذلك حتى بعد موت هذا النظام. ومع الإعلان عن فوز الكاتبة البيلوروسية سفيتلانا ألكسيفيتش بجائزة نوبل التي أشادت لجنة الجائزة بأعمالها في تشريح النظام الشمولي، يتّضح أن مشكلة كاداريه في عدم حصوله على جائزة نوبل ليست بسبب تأييده لحرب 1999 ضد صربيا وتأييده لانفصال كوسوفو عنها وإنما بسبب مكانته السابقة في النظام الشمولي السابق التي يكشف عنها هذا الكتاب الجديد.