تشهد مناطق عربية وإسلامية توتراً ملحوظاً وانقساماً داخلياً بين فئات المجتمع الواحد من خلال تنامي المواجهات الطائفية، خصوصاً بين السنّة والشيعة، وقد اتجه بعضها الى حمل السلاح والمفاصلة التامة ليس مع الأنظمة السياسية فحسب؛ بل حتى مع المكونات الاجتماعية الأخرى ذات المشترك المصلحي والتاريخي. وهذه الحالة الاحتقانية من النزاع المضمور والقابل للانفجار في أي لحظةِ تثويرٍ لها، هي مصدرٌ ثريٌ لتشريع الإنقسام والتحول نحو النزاعات المسلحة، وتوقف أي مشروع تنموي واصلاحي يخدم فئات تلك المجتمعات. واقع التثوير الطائفي اليوم ينادي شعاراتياً بالاصلاح والتنمية المتكافئة، ولكن العقل يأبى أن يفهم ممارسات تلك المطالبات. والسبب أن تعدد البواعث لظهور الطائفية بالندية المتشنجة داخل مجتمعاتها يحمل الكثير من المبررات الحقوقية والوطنية، ولكن لا تصل إلى درجة المواجهة التفجيرية لكل مكتسبات الأطراف، إلا إذا كانت هناك أجندة توسعية وسياسية تغلب المنطق العقلي ومركزية الوطن للجميع. هذه الحالة ليست بدعاً من واقعنا اليوم، بل هي أساس الافتراق الذي ظهر في الأمة الإسلامية منذ بداية عهودها، ولسبب رئيس تشظت من أجله فرقاً وطوائف توالدت مع نمو التأصيل الفكري لتلك النزاعات. وقد أشار الشهرستاني إلى ذلك السبب في قوله: «وأعظم الخلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيفُ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان» (الملل والنحل 1/31). فالبعد السياسي والتنازع السلطوي قاسم مشترك في بعث كل الطوائف نحو التمرد أو النزوع للمواجهة، فكما أنها تُرضي أطماع المتغالبين على الحكم؛ إلا أنها تحمل معها تبريراتها الدينية ولبوسها الشرعي في إقناع الغوغاء والأتباع لخوض الحروب المقدسة والتنعم بالشهادة في سبيل الله، مناصرةً لحقوق آل البيت كما هو شعار العباسيين وعموم الطالبيين «الرضا من آل محمد»، وشعار الحاكمية لله تعالى كما رفعه الخوارج في وجه خصومهم «لا حكم إلا لله»، ورفع ابن الأشعث شعار «يا ثارات الصلاة» لاستمالة الفقهاء في عصره، لأن الحجاج كان يميت الصلاة ويؤخرها حتى يخرج وقتها. ولم تتوقف حركة الاستغلال السياسي من تثوير الناس نحو الإمامة والسلطة حتى في عصرنا الحاضر، الذي استبدل بعبارة الموت لأميركا والقضاء على الصهيونية، ورميهم في البحر، كما درج على ذلك خطباء الفرق والطوائف والأحزاب في تثوير عواطف السذج نحو المجهول الفاتن والمصير القاتم لتلك الدعوات. لذا يتساءل المرء اين عقول الناس ومواقفهم من تلك الألاعيب، أين منطق الواقع من تلك الخطابات اللاهبة، والتصفيقات الصاخبة للجموع المستغفلة، أين محاسبة أصحاب الوعود في منابر الصمود عندما اكتشف الناس ما وراء الأكمة من الحظوظ؟!!. كل ذلك يتلاشى وينتهي وتختفي ملفات النقمة بعد النكبة، كسُنّة تاريخية تعاقبت عليها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتؤكل دائماً كما أُكل الثور الأبيض. والمتابع لذلك المسلسل يرى ان غياب العقول المدركة ورهبة القلوب المؤمنة هي وراء انتفاشة ذلك السخف السياسي باسم الدين والحق. ولا أعني أن تلك الحركة الإنتهازية لمتسلقي المناصب ستنتهي إلى العدم، فالواقع يشهد بحاجة الناس للانتفاض ضد الفساد، والصمود عند القتال، وطبيعة البشر عند الفتن تتجه نحو الصوت الأعلى الذي يلبي نقمة النفس، ولكن أن يختفي صوت المنطق وعقلانية الحكمة من كل الأحداث القبلية والبعدية، فهذا هو التقاعس المؤذن بانقلاب الموازين وتحكم الغوغاء في مصير البلاد والعباد. والمتأمل في هذه الظاهرة يجد من أولويات الخروج من مأزقها وتكرارها، تربية تلك المجتمعات على عقلانية التفكير ومنطقية التعامل مع الأحداث وتقوية الفكر الناقد في نفوس الأفراد، وربط المناهج التعليمية بتلك النظريات، ومحاورة الاطروحات وعرضها على قوانين الفكر ومستلزماته، وبالتأكيد ستبقى هناك شرائح مجتمعية تنبذ تلك الطريقة في التناول وتأنف من الحلول العقلية لأنها تراها انهزامية وتقاعساً عن الانفلات نحو التغيير، وربما يمثّل الشباب فيها نسبة غالبة، ومع ذلك فإن تأثير النخب المفكرة ونتائج العمل ولو كانت متأخرة، ذات جدوى في تغيير مسار كثير من الطوائف بل والشعوب نحو السلم والتعايش، ولعلي أبرهن على ذلك بنماذج تاريخية مرت بتلك الظروف والأحوال، فالمعتزلة كفرقة كان لها حضورها السياسي الكبير في القرن الثالث وحتى السابع الهجري في بعض المناطق من عالمنا الإسلامي، وقد مارسوا أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين جنوحاً شديداً نحو الاستبداد كما في فتنة خلق القرآن ومحنة الإمام أحمد بن حنبل، وحصل لهم من التمكّن ما يدفعهم للقفز نحو السلطة وتجييش الاتباع، ومع ذلك فأدبياتهم العقلية ومنطقيتهم التي غلبت في أدبياتهم الفكرية، لا تتوافق مع غايةٍ سبيلها الرئيس الشحن العاطفي والتهويل النفسي وتضييع الحقائق بين تلك المغالبات والأصوات العالية، لذلك تلاشت المعتزلة واندمجت في المجتمع الإسلامي واصبحت تاريخاً مضى إلا البعض من افكارها ذات البعد الفلسفي وليس السياسي. (انظر: الجاحظ وكتابه الرسائل السياسية، تحقيق علي أبو ملحم، دار ومكتبة الهلال بيروت). أما الشاهد الآخر، فهي تلك التجربة الكبيرة التي حصلت لأوروبا بعد عصور الاستبداد الكنسي والسياسي، فالحروب الصليبية والصراعات الدينية والأثنية أنهكت تلك المجتمعات قروناً طويلة، جعلها تتجه نحو عصر العقلانية المحضة والتي خفّفت بعد زمن من الاستقرار غلواء التعصب الديني والتشنج العنصري، فالاطروحات الفلسفية للوك وبيكون وروسو وفولتير وهيغل وديكارت وكانط وغيرهم غالبت إلى حدٍ ما سطوة الكنيسة نحو تبريرات الحروب المقدسة وشرعنة الاستبداد السياسي، صحيح أن المجتمع الأوروبي عانى من عودة التثوير لعقله خلال الحروب العالمية، ولكن جاء ما يقابلها من وحدة متكاملة لتلك الدول طوت صفحة التنازع الأثني والعنصري نحو الاتحاد الأوروبي على رغم قرب الأحداث الدموية وشهود جيل واحد على تلك المتغيرات الكبيرة. هذا المشروع المقترح أو وجهة النظر للحالة الطائفية في عالمنا الإسلامي، يمكن أن نتجاوز آثارها الوخيمة ولا تكون مبرراً أو معبراً لاختراقات دولية أو مشاريع استعمارية مقبلة، بتعميق الطرح العقلاني وليس العلماني في أدبيات تلك الطوائف واعتماد المنهج النقدي المنطقي في قراءة الواقع والتعامل مع الأحداث التاريخية والحالية، وهذا الخيار يقلب آلية التعامل مع تلك الطوائف نحو الميدان الفكري العقلاني بدلاً من السياسي والثوري؛ بل ويعمق الانتماء الفكري للطائفة وينقّي معتقداتها من الخرافة والأساطير والتسييس المتعمد للمذهب. ويكون مبرراً للعمل المشترك في قضايا التنمية ومسالك النهضة. وأتساءل في الختام: هل تلك التجربة لو حصلت وتبناها بعض عقلاء الطائفية المعاصرة؛ قادرةً على المحافظة على التعايش بين تلك المجتمعات وتحويل التعددية إلى مرفأ آمان من تقلبات السياسة وهياجها نحو الانتقام أو الاستقلال؟، وهل نستطيع أن نعيش في جزيرة واحدة بدلاً من الفوضى الجغرافية والتوظيف السلبي لمعتقدات الروح المطمئنة؟. أسئلة قد تبحث عن إجابة تختزل قروناً من التشتت والضعف. * كاتب سعودي