شهد عام 1893 ولادة أول جريدة في مدينة طرابلس هي جريدة «طرابلس الشام» لصاحبها محمد كامل البحيري الذي طلب من السلطات العثمانية في خطية الافتتاح التي تصدرت العدد الأول من جريدته بتاريخ 13 آذار (مارس) 1893 ترخيصاً لجريدته حيث يقول: «فتفضل جلالته بصدور إرادته السلطانية وأوامره الشاهانية بالإذن لهذا العاجز بإنشاء مطبعة في بلدتنا طرابلس الشام تسمى مطبعة البلاغة ونشر جريدة أسبوعية تدعى طرابلس تسعى لخير الوطن وتخدم الملة والدولة بكل منهج مؤتمن». وكان لهذه المنة العظيمة التي تكرم بها جلالة السلطان الشكر العميق لأنها أفرحت قلوب الطرابلسيين وأفئدة محبيهم من العثمانيين... لذلك أشار البحيري إلى أهمية الحصول على المطبعة والجريدة بالنسبة لطرابلس بالقول: «فاشتمال طرابلس على مطبعة وجريدة يسهل نشر العلم وتبادل أهل الذكاء والفهم وغير ذلك من الفوائد ما لا يقدر من العوائد ما لا يحصى ولا يعد كما أنها مورد التجار ومحط السفّار والمطبعة مستعدة لطبع الكتب من أي نوع كان وبأي لغة من اللغات المتداولة حسب الإمكان، والجريدة قائمة في سبيل الخدمة الوطنية». بقيت جريدة «طرابلس الشام» تصدر أسبوعياً على مدى 24 سنة من عام 1893 وحتى عام 1917. تنوعت أبحاثها وتوزعت على المواضيع السياسية والعثمانية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية والتاريخية والدينية. وشكلت الأبحاث الاجتماعية الحيز الأكبر من خلال أقلام كل من الشيخ حسين الجسر ومحمد كامل البحيري الذي اتصف برؤية مستنيرة وآراء متقدمة وأفكار تطرقت إلى الأوضاع العامة التي ميزت حال الولايات العثمانية آنذاك. ويبدو أن الجريدة قد مرت بفترات عصيبة إذ لاقت صعوبات جمة في عهد الحكومة التركية بعد تدخل أبو الهدى الصيادي القريب من السلطان عبد الحميد الثاني والذي جهد لأن تكون الجريدة منبراً يكيل المدح والثناء لسياسته وأعماله وجعلها لسان حاله في جميع أعماله، وهكذا حفلت مسيرة الجريدة ببعض الصعوبات طوال فترة ظهورها وحتى وفاة منشئها محمد كامل البحيري بتاريخ 25 كانون الأول (ديسمبر) عام 1920 إذ لم يكن من اليسير على رجالات الدولة العثمانية التغاضي عن بعض الاتجاهات الفكرية والسياسية التي يعبر عنها بعض كتابها. أما بالنسبة إلى المواضيع التي تصدرت أعمدة الجريدة، فيمكن التوقف عند المواضيع الاجتماعية والتي كانت تحاكي مشاكل المجتمع الطرابلسي بخاصة حاجته إلى المدارس الوطنية والكوادر العلمية المتخصصة، من هنا بدت دعوة محرر الجريدة إلى ضرورة بناء المدارس الصناعية ليعلم فيها أبناء الوطن وشبابه «ما يقوم بأودهم من الصنائع اليدوية للاغتناء عن المصنوعات الأجنبية بقدر الإمكان». ولم يتوقف محرر الجريدة عند المواضيع الاجتماعية بل جال قلمه أيضاً في المواضيع السياسية والتاريخية. ففي موضوع الانتخابات نبّه إلى وجوب التحري والعناية والاستقامة في انتخاب أعضاء المجالس البلدية وسواها من المحاكم النظامية، مشيراً إلى المنافع المترتبة عن حسن اختيارهم وكثرة المضار الناتجة من فساد الانتخابات فيقول: «في ذلك الحرص على نصح الوطن والتباعد عن غشه»، من هنا جاء كلامه إلى كل الذين لهم حق الانتخابات «أن يتيقّظوا لما هم عليه يقدمون ويراعون جانب الحق والذمة والشرف». كما لم يفت محرر الجريدة فرصة التطرق إلى المواضيع التعليمية وبخاصة تعليم البنات «التي هي من أعظم الأسباب لنجاح الشعوب» إذ أدرك أهمية العلم والثقافة في رفع مستوى الشعوب رابطاً به مستقبل الوطن للسير نحو الأكمل والأفضل، مشيراً إلى أن سمة التطور تفرض عليه إذا أراد الارتقاء بالحياة الإنسانية أن يقبل وبشغف على مناهل العلم والمعرفة. من هنا جاءت دعوته لأهل طرابلس ليبادروا في إنشاء المكتبات لأهميتها في نشر العلم والمعرفة «فالمكتبات رافد من روافد المعرفة تمكن المرء أن يقطف منها ثمرات العرفان». أما في شأن الخطة التي درجت عليها الجريدة منذ نشأتها فيشير محرر الجريدة وفي أكثر من مقالة إلى ضرورة العمل الدؤوب والمستمر لتزين أعمالها بالمقالات العلمية النافعة «وخطة الجريدة التي درجت عليها منذ نشأتها أن تزين أعمدتها بمقالات علمية ودينية وتهذيبية ووطنية لا نقصد بها إلا نشر الحقائق وتنبيه الغافل وتعليم الجاهل ونصيحة الحائر والتحذير من الشدائد». وهو بهذا ترك الباب مفتوحاً لمناقشة تلك المقالات العلمية والدينية والتهذيبية بين أرباب العلم والمعرفة. كما يشير إلى بعض مقالات مدرجة في بعض الجرائد تحمل عنواناً يفهم منه أنه محاولة لمناقشة ما كتب وهي في حقيقتها تكشف في جزء من القول وسفة من الكلام. ويعلق على ذلك قائلاً: «قد سلكت سبيل الشتم والبذاء وشاغبت في المحاورة مشاغبة اللئماء وهددت تهديدات فارغة وتركت التدقيق والتحقيق في الموضوع الذي كتب فيه ولم تحاول الكشف عن قوافيه». أما ما جاء في «رياض طرابلس الشام» فمجموعة مقالات جمعها الشيخ حسين الجسر من الجريدة تحت اسم «رياض طرابلس الشام» ومنها موضوع الحياء الذي اتخذ طابع التوجيه والذي عرّفه محرر الجريدة «بأنه خلق في النفس يمنعها من ارتكاب القبيح وبأنه الزاجر عن الرذائل والحامل على الفضائل». ومنها موضوع الصنائع الوطنية، إذ أشار إلى أثر هذا الموضوع على الثروة الوطنية، محذراً من هجوم صناعة الأجانب، فكتب منبهاً ورافعاً الصوت إلى أهل النظر والشأن «يا أهل الأوطان يا ذوي النظر في العواقب والحسبان ألا تتفكرون في هجوم صناعة الأجانب على صناعة بلادكم واغتيالها ثروة الكثير من أفرادكم». كذلك كان لموضوع النفاق مساحة على صفحات «رياض طرابلس الشام» إذ عرفه بأنه «المراد أن يظهر الرجل لآخر، خلاف ما يبطنه في شأنه فيثني عليه بلسانه وهو ذام له في قلبه ويصدق كلامه ويحسن أعماله وهو في نفسه مكذب مقبح». كذلك عرج على موضوع إصلاح الأخلاق مشيراً إلى التأخر الذي منيت به الأمة وانحطت إلى دركات الضعف وهوت في هوة هضمت فيها حقوقها، ورأى أن قرار حكم الباحثين في هذا الموضوع منحصر «في أن السبب الأعظم في ذلك الداء العضال هو فساد الأخلاق والآداب الذي عمّ وسرى في أفراد الأمة». أما موضوع مهام الجرائد، فقد تطرق إليه، وبرأيه أن الجرائد تنقسم موادها إلى عدة أقسام، وتوضح فيها تحت عناوين وقد شده هذا الدور، لذلك نّوه بأولئك الذين سبقوا أهل طرابلس في إصدار الجرائد والانتفاع بمطالعتها، ويخلص للقول بأن تأثير الجرائد يبدو جلياً عند الشعوب المتمدنة وفي رأي عقلاء الأمة وفضلاء المملكة «لذا يطالب أولي الحل وكل من يحب الخير للشعوب» أن يتكرموا بزيادة تدقيق النظر في شأن من يستلمون زمام الجرائد «فيجعلون نزاهتهم وأدبهم من أول الشروط التي تتيح لهم استلام صحائف التهذيب العمومي». * كاتب لبناني