يعتبر مهرجان المركز الكاثوليكي المصري للسينما مهرجاناً سينمائياً فريداً من نوعه بين المهرجانات السينمائية في مصر والعالم العربي. وأول ما يميزه أنه أقدمها فقد بُدئ عقده سنوياً ومن دون انقطاع منذ عام 1952. وهذا التميز بشقيه - البعد الزمني والاستمرارية - يمثل تميزاً استثنائياً بين أوجه النشاط الثقافي أو السينمائي عندنا، والتي لا تلبث عادة بعد قيامها أن تتوقف أو تتعثر في انتظامها أو تبدأ قوية ثم تتراجع حتى تخبو أو تكاد. وهي عيوب شائعة في نشاطنا الثقافي لم تمس هذا المهرجان بل على العكس فهو بدأ متواضعاً، يبحث له عن مكان لحفلتي افتتاحه وختامه ومكاناً لعرض أفلامه، لكنه ما لبث أن استقر في أحضان «قاعة النيل» منذ عام 1958 يقيم فيها نشاطه السنوي. وفي الدورة الأخيرة أصبحت القاعة على مستوى قاعات العرض من الدرجة الأولى «650 مقعداً» بعد أن جهزت بأحدث آلات العرض، وأعيد تأثيثها. وما يميز المهرجان أيضاً أنه يقتصر على منح جوائز معنوية هي عبارة عن شهادات تقدير للفائزين بها من بين الأفلام المتنافسة. ولعل ذلك ما يبعده عن إثارة التنافس الشرس الذي يقوم بين المتنافسين في مهرجانات أخرى، قد تلعب فيه المصالح دوراً غير حميد. وإن كان مهرجان جمعية الفيلم فيشارك مع هذا المهرجان هذه الميزة. وجوائز المهرجانين تحظى باحترام الفنانين الذين يحرصون على المشاركة فيهما. غير أن أهم ما يميز المهرجان الكاثوليكي ويمنحه خصوصيته، هو المعيار الذي حدده لاختيار الأفلام المشاركة في المسابقة، وهو أن يحمل الفيلم قيماً إنسانية وأخلاقية، ما يعني استبعاد أي فيلم مهما كان مستواه الفني إذا تضمن أي مساس بالقيم الأخلاقية الإنسانية. وعلى أساس هذا المعيار قامت لجنة الاختيار هذا العام برئاسة رئيس المهرجان ورئيس المركز الكاثوليكي للسينما الأب يوسف مظلوم باختيار ستة أفلام من مجموع 39 فيلماً هي إنتاج العام الماضي. وهذا الاختيار لا يعني أن بقية الأفلام الأخرى لا تحمل قيماً أخلاقية. فمن المعهود في أفلامنا أنها تحرص بصفة عامة على أن تحمل هذه القيم أو تدّعيها حتى وإن تضمن الفيلم مشاهد عارية. ومن أفضال هذا المهرجان أنه يجعلنا نعيد النظر في الأفلام المختارة في المسابقة من وجهة النظر الأخلاقية الخاصة التي لا تحظى عادة باهتمام النقاد. وفي رأيي أن أربعة من الأفلام الستة المختارة في مسابقة المهرجان ترقى إلى مستوى المناقشة وتستحق إعادة القراءة لها من وجهة نظر المهرجان الأخلاقية، أما الاثنان الآخران فما يحملانه من قيم أخلاقية لا يبرر هبوط مستواهما الفني الذي يجعلهما في نظري خارج المناقشة. والأفلام الأربعة هي: «أولاد العم»، «ألف مبروك»، «طير انت»، «الفرح». من أبرز مشاهد «ولاد العم» وربما من أكثر مشاهد أفلام المسابقة كلها قوة على المستوى الفني والأخلاقي معاً، هو المشهد الدرامي الذروة بين منى زكي وشريف منير، بعد أن اكتشفت منى بأنها لم تعد في بلدها مصر وإنها في قلب إسرائيل وأن زوجها الذي عاشت معه سنين وأنجبت منه طفليها ما هو إلا جاسوس إسرائيلي، وقد اختطفها هي وأولادها بعد أن أفقدها الوعي. تجسد لنا منى هنا ببريق عينيها كل مشاعر الجزع والفزع والغيظ والتحدي وهي تصرخ في وجه «شريف منير» رافضة الحياة معه، ويرد عليها شريف بملامح وجهه الحادة وكأنها قدت من حجر خشن وعلى شفتيه ابتسامة واثقة باردة وفي عينيه بريق التحدي، أن عليها إما ان تقبل الحياة معه وإما أن تعود من دون أبناء. تبصق منى في وجهه صارخة: أنت كافر. يرد بهدوء ساخراً من جهلها بدينها الذي يعتبره من أهل الكتاب وليس بكافر. إجابته تصحح مفهوماً شائعاً من المفاهيم الخاطئة. ويسألها إن كانت تقبله لو أصبح مسلماً ويأتي ردها القاطع بالنفي. تؤكد إجابتها معنى المواطنة التي تتجاوز حدود الانتماء الديني، فلم يعد عندها مقبولاً حتى لو كان مسلماً بعد أن فعل ما فعل ضد وطنها. وفي اعتقادي أن هذا المعنى هو أقوى المعاني الأخلاقية والإنسانية التي حملها الفيلم، إلى جانب إثارة الفيلم العامة للمشاعر الوطنية، من خلال قصته التي تدور حول صراع بين الاستخبارات المصرية والاستخبارات الإسرائيلية. وقد تم تنفيذ المشهد بحرفية عالية في الأداء وحركة الممثل وأحجام اللقطات القريبة للوجه وإيقاع المونتاج في الانتقال في ما بينها، ما جعل المعنى ينفذ إلى أعماق لا شعور المشاهد، ويجعل منه – في نظري - المشهد الأهم في أفلام المهرجان. في المقابل لم أستسغ الحكمة التي انتهى بها فيلم «ألف مبروك» ونسمعها بصوت البطل وفيها يقول: من الأفضل أن تكون غائباً حاضراً من أن تكون حاضراً غائباً». ويأتي هذا الصوت بعد موته فى اللحظة التي كان يستعد فيها لدخول حفل زفافه حيث يحاول إنقاذ حياة أسرته من سيارة النقل الضخمة التي كادت تدهمهم لكنه اعترضها بسيارته وضحى بنفسه لحمايتهم، وذلك بعد أن حقق تصالحاً مع الأسرة في أحداث سابقة حيث أشفق على أمه من مرضها بعد أن كان يحمل عليها ظناً منه أنها تتعاطى المخدرات بينما كانت تتعاطى الدواء. ويعيد الأموال التي حصل أبوه عليها بطريق غير مشروع تحت ضغط منه ليساعده على تكاليف الفرح والحصول على شقة. كما انه يتقبل زواج صديقه من أخته بعد أن كان يعترض عليه. الحكمة الأخلاقية للأحداث واضحة ولم تعد في حاجة إلى هذه الصياغة الأدبية التي انتهى بها الفيلم. والفيلم إذ يقوم على حلم يتكرر عدة مرات يمثل صياغة غير معهودة للسينما المصرية تم تقديمها بمهارة في قالب فانتازيا كوميدية نجح المخرج أحمد نادر جلال والممثل أحمد حلمي في تقديمها. ويقدم فيلم «طير انت» شخصية شاب يلجأ بمساعدة العفريت إلى أن يكون صاحب عضلات مرة وبالغ الثراء مرة أخرى وعاطفياً مرة ثالثة إلى آخره من المحاولات من أجل الوصول إلى قلوب الجنس الآخر. ولكنه يفشل فى كل مرة، ليكتشف فى النهاية أنه من الأفضل أن يكون هو ذاته. لكن الحكمة الأخلاقية هنا قد تُفهم بمعنى إيجابى وهو عدم ادعاء الإنسان بما لا يملكه، لكنها قد تفهم أيضاً بمعنى سلبي وهو التسليم بما هو متاح دون النظر إلى طموح تطوير الإنسان لنفسه باكتساب مهارات وإمكانات أفضل. كما أن الفيلم جاء فى صورة اسكتشات لا تمثل تصاعداً درامياً وإن نجح بعضها في إثارة الضحك. وأكثر هذه الأفلام اقتراباً من الواقع وأكثرها تكاملاً فنياً في الأداء والسيناريو والإخراج عموماً هو فيلم «الفرح». قدم هذا الفيلم نهايتين لأحداثه كل منهما تؤكد المعنى الأخلاقي المقصود، فعندما تموت الأم أثناء الفرح الذي أقامه ابنها من أجل جمع أكبر قدر من المال من طريق «النقطة» (هي هدية مالية للعريس والعروس أو أهلهما أثناء الفرح أو أي مناسبة سعيدة) ليشتري به ميكروباص ليعمل عليه ويحل مشكلته المالية، ماذا يفعل الابن؟ هل يعلن وفاة أمه ويتوقف الفرح ويكتفي بما حصل عليه من «النقوط»؟ أم يخفي خبر وفاتها إلى حين الانتهاء من الفرح ليواصل أحداثه حتى يحصل على أكبر قدر من «النقوط»؟! في النهاية الأولى يواصل الابن الفرح فتثور عليه زوجته وتطلب منه الطلاق، وترتكب بائعة البيرة جريمة قتل ضد أحد المعازيم الذي حاول اغتصابها ويفاجأ الابن في النهاية بسرقة حقيبة «النقوط». ثم يعود الفيلم إلى حادثة موت الأم ليقدم الاختيار الثاني وهو إعلان وفاتها والاكتفاء بما تجمع من «النقوط» ليؤكد في الحالتين المفهوم الأخلاقي نفسه وهو ضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية التي تقدر المشاعر الإنسانية وتحترم الموت. ولم يكن فوز فيلم «الفرح» بجائزة المهرجان بسبب قيمته الأخلاقية فقط وإنما لقيمته الفنية أيضاً التي تؤكد القيمة الأخلاقية وتضاعف من تأثيرها في نفوس المشاهدين. كما حصل مخرج الفيلم سامح عبدالعزيز على شهادة أفضل إخراج وممثله الأول خالد الصاوي على أفضل تمثيل وكاتبه أحمد عبدالله على شهادة تقدير أفضل سيناريو. ولم يكن ذلك غريباً ورئيس لجنة التحكيم هو المخرج الكبير توفيق صالح. وجاء في بيان اللجنة تبريراً للجائزة أنها «للبراعة في التعبير بأسلوب نقدي عن مجتمع مصري شعبي صميم، بمختلف مفرداته وشخوصه. وكذلك لما تميز به العمل من بلاغة سينمائية». ما جاء في هذا البيان وما سبق طرحه في القراءة الأخلاقية السابقة، إلى جانب ما كتبه النقاد عن القيم الفنية لهذه الأفلام، يؤكد أن القيم الأخلاقية وحدها في الفيلم لا تكفي لتحقيق قيمته إن لم يواكبها ويدعمها قيمة فنية.