مطر في مسقط، مطر غزير يرسم ابتسامة على وجوه العمانيين المستبشرين خيراً بالمطر. مطر، مطر، مطر، العراق ليست بعيداً ولا السياب الذي يحضر هنا شاعراً مقدراً أسوة بشعراء كثيرين، فما يلفت زائر هذي البلاد حظوة وسطوة لا تزالان للشعر وللشعراء. في الطريق من المطار الى الفندق يشعرك مضيفوك بكرم المودة وغبطة الاستقبال. فكيف إذا كنت آتياً بصحبة مطر جاء في غير موسمه؟ يستبشر بك الناس خيراًَ استبشارهم بالمطر فيذكرك الأمر بكم للماء الذي خُلق منه كل شيء حي، من مكانة وأهمية، خصوصاً أنه لا يأتي هنا كل حين، ويتسم بالشح والبخل على رغم كثرة الدعاء. « كل يشيخ إلا الماء». يهز السامعون رؤوسهم استحساناً حين تقرأ عليهم هذه العبارة من قصيدتك «أحبك أكثر»، ففي البلاد التي تشتاق للمطر ثمة علاقة مع الماء تختلف كثيراً عن تلك التي تكون في بلاد تذهب مياهها الى البحر. مطر وشعر معاً. لا شك في أنك محظوظ. كأن الطبيعة تواطأت معك في استدراج الناس الى مرتبة روحية وجدانية ترفعهم وترفعك الى أعلى، الى قمة من النشوة والانخطاف تضاهي قمم الجبال الصخرية التي وشحها مطر في غير أوانه، بأخضر خفيف فبدت كثوب عماني قديم حاكته جدة مبدعة. تجهم الجبال القاتمة التي تتماوج فيها ألوان وتتدرج من حمرة خفيفة الى بني غامق الى أسود صريح أحياناً، تقابله الابتسامات المرسومة على وجوه العمانيين الذين يخففون قسوة تلك الجبال بمودة تنبعث من جوف القلب وتتدفق على الوجوه بعذوبة وسلاسة وكأنها عوض ينابيع ماء عذبة تحجبها صخور الجبال عن الناس. ابتسامات العمانيين وبياض عمارتهم، تناغم وانسجام بين بياض الداخل وبياض الخارج. (لا بد لك أن تتذكر سيدي بوسعيد وعمان ومدناً أخرى تتشح منازلها وعماراتها بالبياض...) ولا تعود متأكداً من الذي يترك أثره أكثر في الآخر، الناس في المكان أم المكان في الناس، أم في العلاقة الجدلية المزمنة بين الأرض وبنيها؟ هنا تشعر بوطأة الزمن. وبثقل التاريخ الذي يحضر عميقاً في الجغرافيا خصوصاً حين تكون واقعة على فوهة الاستراتيجية كما هي حال عمان. بياض المودة وبياض العمارة يخففان تجهم الجبال وثقل التاريخ الذي يكرر نفسه، كما بات معلوماً، على نحوين: هزلي أو فجيعي. لكن ما لنا وللتاريخ الآن. الجغرافيا لا تشكو من شيء!، حتى وإن كانت تشكو فإن يد الانسان متى كانت واعية مدركة تعمر بدل أن تخرب، وتضيف الى سحر الطبيعة ما يضاعفه والى قسوتها ما يبددها، أو يخففها على الأقل. وهذا ما يفعله العمانيون بحرصهم على عمارة بيضاء تستلهم مفردات الهندسة الاسلامية - العربية فتغدو مشربيات البيوت وكأنها ثقوب الزمان في المكان أو عيون البر على البحر. حسناً يفعل العمانيون بنأيهم عن الأبراج الشاهقة وكتل الإسمنت الصماء وبحرصهم على عمارة تشبههم، وتشبه ماضيهم وتستلهم موروثهم الانساني والثقافي وتتناغم مع بحرهم المخضرم القديم المتسم بهدوء مخادع لا يعكس حقيقة ما يدور على ضفتيه، أو على ضفتي بحر العرب. مطر وشعر وبياض قلوب ووجوه وعمران، وخضرة ضنينة لكنها منتصبة في شوارع مسقط وطرقاتها، وبحر لم تشيّبه النوائب والمحن، وجبال قاتمة لكنها تبدو وكأنها وسّعت أحضانها لمدينة تنمو وتتسع في بياض يجعلك في مسقط السكنية على رغم أن طبولاً أخرى تقرع في الجوار.