«الملف ك» عنوان كتاب صدر في تيرانا عام 2005 عن ملف الكاتب الروائي اسماعيل كاداريه في أجهزة الامن خلال حكم الحزب الشيوعي الالباني (انظر «آفاق» عدد 30/3/2005)، ولكنه أيضاً عنوان رواية صدرت بعده للكاتب الروائي البلجيكي جف غيرارتس (ولد 1930) وتحولت الى «بستسلر» او بين الاكثر مبيعاً عام (2007-2008). أصبحت هذه الرواية مشهورة اكثر بعد أن تحولت الى فيلم سينمائي بالعنوان نفسه «الملف ك» للمخرج البلجيكي جان فرهين الذي استقطب اهتماماً بسبب موضوعه الالباني غير المألوف منذ عرضه في الايام الاولى لعام 2010. وفي الواقع ان وجود «الموضوع الالباني» في مثل هذه الرواية وغيرها لم يعد مستغرباً بعدما أصبح الوجود الالباني ملموساً في تلك المجتمعات نتيجة للحروب والمشاكل التي لحقت بالبلقان في العقود الاخيرة. فقد أصبح الالبان، سواء من ألبانيا أو من كوسوفو ومكدونيا، يشكلون نسبة متزايدة في دول ألبانيا الغربية، حتى إن اللغة الالبانية أصبحت اللغة الرابعة في سويسرا من حيث عدد الناطقين بها بعد الالمانية والفرنسية والايطالية. والمهم هنا أن الالبان هناك، الذين أصبح عددهم في الشتات أو الموطن الجديد يوازي عددهم في الموطن الاصلي، نقلوا معهم ثقافتهم الخاصة التي فيها ما هو ايجابي وما هو سلبي في نظر المجتمعات التي حلّوا فيها، كما هو الامر مع الاكراد والاتراك والعرب... الخ. ولكن بالمقارنة مع الاتراك والاكراد والعرب الذين لا تزال قضية «العرض» وجرائم الشرف تهز المجتمعات الاوروبية التي يعيشون فيها، فإن الامر مع الالبان يختلف، اذ إن جرائم «الثأر» وليس «العرض» هي التي تهز تلك المجتمعات. ومن هنا بنى الروائي غيرارتس روايته «الملف ك» على جرائم ثأر غير مألوفة قام بها شخص ألباني قدم خصيصاً من بلاده لتنفيذ هذا «الواجب» بحسب العرف السائد في جبال ألبانيا الشمالية. عرف عن الالبان في شكل خاص بين شعوب البلقان حرصهم على الاخذ بالثأر الذي أصبحت له مرجعية مؤسسة في القانون العرفي الموروث عند الالبان «قانون لك» منذ القرن الخامس عشر على الاقل، حيث لا يتميز هنا المسلمون عن المسيحيين. وقد أدى هذا العرف المؤسس الى اجلاء عائلات وانقراض عائلات بكاملها بسبب عمليات الثأر والثأر المضاد التي يمكن أن تستمر طوال عقود بين الاطراف المتورطة فيه. كاداريه تناول في روايته المعروفة «الحصن» مشكلة الثأر عند الالبان واجتهد في تحليلها ليصل الى أنها «مستوردة» في وقت كانت كل الظواهر السلبية في ألبانيا أنور خوجا تنسب الى الخارج. فالطرف العثماني المتضايق في الرواية من تزايد عدد الالبان يقترح نقل هذه العادة من «صحارى العرب» ونشرها بين الالبان لتقضي على أكبر عدد منهم. أما في رواية غيرارتس، فالمثير فيها، وفي الفيلم أيضاً، أنها تعرّف القارئ على «العالم الالباني» في امتداده الواسع من جبال ألبانيا الشمالية (الجبال الملعونة) الى عالم الشتات الالباني في أوروبا الغربية، ومن عالم ما فوق الارض الى عالم ما تحت الارض (المافيا) الذي أصبح مركزاً لتجارة البشر والمخدرات الخ. وبعبارة اخرى، يبدو «العالم الالباني» مدهشاً ومثيراً واستغرابياً في نظر القارئ البلجيكي وغيره الذي لم يكن يلتفت الى ما وراء الالبان الذين يعيشون في جواره في مدينة انفرس وغيرها. تعتمد الرواية على ملفات الشرطة في التحقيق في جرائم عدة يقوم بها شخص قادم من ألبانيا الشمالية ليتخلص فيها من ألبان كثيرين يعيشون في انفرس بدافع الثأر الذي حمله معه من موطنه. ومن الطبيعي أن يضيف غيرارتس هنا بعض الخيال الروائي والحبكة البوليسية لتكون الرواية مشوقة في النهاية. وتقوم الرواية الحقيقية والرواية الفنية على الشخصية المركزية نظمي طاهري الذي كان يعيش ببساطة في منطقة شمال ألبانيا الجبلية المعزولة (الجبال الملعونة) حيث يصل الى علمه أن والده الذي هاجر الى انفرس للعمل هناك قد تعرض للقتل على يد مجموعة ألبانية (غاما) تتنافس مع غيرها للسيطرة على عالم ما تحت الارض. ونظراً لأن القانون العرفي الالباني «قانون لك» المعمول به منذ ما قبل الفتح العثماني وانتشار الاسلام يلزم الابن بالثأر لأبيه، يتولى نظمي طاهري القيام بهذا الواجب ويسافر الى انفرس للبحث عن قتلة أبيه بمساعدة بعض الالبان حيث يقوده ذلك الى «عرّاب» المافيا الالبانية هناك برنك شيخو. ونظراً لأن نظمي طاهري يتمكن من مغادرة بلجيكا الى بلاده بعد ثأره من قتلة أبيه، فإن أحداث الرواية الحقيقية والرواية الفنية تنتقل الى شمال ألبانيا حيث تلاحق طاهري الشرطة البلجيكية لتحقق معه والمافيا الالبانية لتنتقم منه. وتجدر الاشارة هنا الى أن الفيلم الجديد الذي اعتمد على رواية غيرارتس، مع بعض الاجواء البوليسية الهوليوودية، جاء متنوعاً بمشاركة فريق عمل بلجيكي وألباني وتركي وتم تصويره في سفوح البيرينيه الاسبانية التي تشبه سفوح «الجبال الملعونة» في ألبانيا الشمالية. «الملف ك» نموذج للثقافة البصرية الجديدة حيث يقوم فيها مخرج معروف بنقل عمل روائي معروف الى الشاشة الكبيرة ليجعل الجمهور يتمتع بالصورة والرواية معاً.