يقدم الكاتب السعودي عبده خال أبطال روايته الجديدة «ترمي بشرر» (منشورات الجمل) وهم ينوؤون تحت أعباء ما اقترفوه من ذنوب، محاولين التملص من أحابيل الغواية التي علقوا فيها، بعد أن استدرجتهم أقدارهم إليها. فسقطوا أخلاقياً واجتماعياً سقوطاً مدوياً إلى قاع الحياة المبتذلة، وتلاشت أحلامهم بالمال والسلطة. إذ كُتب عليهم ألاّ يخرجوا من شرنقة فقرهم وضعفهم وقلة حيلتهم. وأن يُدفعوا إلى نهايات تراجيدية، لا تجدي معها حسرة أو توبة، أو توطين النفس بالعودة إلى سواء السبيل. نتعرف الى هؤلاء الأبطال الراسفين بأغلال الماضي. في إطار سردية مركبة، ترتكز على الموروث الحكائي الشعبي الشفهي والمحلي. وعلى تداخل الأزمنة على شكل موجات تنكسر إحداها لتكشف جزءاً من حقيقة الشخصيات، وتتصاعد أخرى لتحجب جزءاً آخر. تاركةً مساحة لألاعيب السرد ومراوغاته، التي تخترقها احياناً تهويمات شعرية. حاثةً القارئ على حل ألغازها، وتفكيك شبكة خيوطها التي تلتف حول حياة عيسى الرديني وطارق فاضل راوي القصة، وأحد أبطالها، وأسامة، وهنادي، ومرام، وسيد القصر المغفل الاسم. وسواهم من شخصيات نسائية ورجالية مبهمة متفاوتة الحظوظ، ومتباينة المصائر. أبطال عبده خال كثر. فالبطولة عنده ليست وحيدة أو فردية، بل تضطلع بها كوكبة من الناس المختلفين، فإلى الوجيه صاحب القصر بمهابته وسطوته على من حوله. يستفيض القاص في وصف أحوال حسن دربيل، وهو يطارد كلابه الضالة في أزقة الحي. وحيث تُسرف روايات أهل حارته في الحديث عن غرائبيته، يزعمون انه كان يزاحم الكلاب، على الرضاعة من ثدي الكلبة الأم. وكما يُغرق القارئ بتفاصيل السلوكيات المنحرفة التي يحياها صاحب الوجاهة في قصره، وبين حاشيته، وزواره، وخدمه، وطرائده من النساء. كذلك نقف على لحظة نهاية صيادي حارة «الحفرة» وهم يتحسرون على أرزاقهم وهي تنقطع، وتجّف بجفاف البحر المردوم تمهيداً لإقامة العمارات الحديثة، والمجمّعات الضخمة. منذ الفصول الأولى لرواية عبده خال، يمثل أمامنا مشهدان نقيضان: قصر منيف يشع بالأنوار، ويرفل بمباهجه وصوره الباذخة. وفي مواجهته حارة شعبية تتلجلج في عتمتها، وتقطنها شرائح معدومة من صغار الصيادين والحرفيين والباعة والكسبة. محاصَرة بالفقر والشقاء وعشوائية العمران وحياة الصعلكة. حارة ما تلبث أن يتراجع زمنها، فتنزوي خلف، أو تحت أسوار القصر، وتحجبها ظلال الأبنية، قبل أن تقتلعها التخطيطات المدنية الجديدة. إزاء هذه الثنائية، يسمي أبناء الحارة حارتهم بالنار والقصر بالجنة، ويتطلع بعضهم إلى الفرار من لجة العدم التي يعيش فيها، إلى رغد القصر المرتجى، وتزداد رغبة الراغبين، بمقدار ما يكتنف حياة ساكنيه من غموض. وهذا ما يجعل أبطال الرواية يشتطّون في خيالاتهم التي تقتحم أسواره العالية وبواباته الموصدة. وحيث ترتد الأنظار حسيرة، كليلة أمام مغاليق القصر، تنشط المخيلة الشعبية، فتتناسل منها الروايات، وتتوالد الحكايات، وتنتشر التقولات والشائعات. في حين تظل حارة الحفرة، حبيسة زمنها المتكرر، وحفرة للفيف من الأجناس والأعراق والجاليات البعيدة والقريبة. ومن المقهورين والمخمورين والشاذين واللصوص. وعلى إيقاع التناوب بين ما يحدث داخل القصر، وبين ما يجري في الحارة. بين الداخلين المبهورين، والمطرودين المصدومين، أو المقتولين عند عتباته. تُنسج مصائر العديد من أبطال الرواية، ونهاياتهم الفاجعة. الارتقاء الصعب يعيش أبطال «ترمي بشرر» لا سيما أبناء الحارة توتراً وجودياً ونفسياً، ناجماً عن محاولتهم التماهي بعلية القوم، والارتقاء إلى ما هو أبعد من ماضيهم الذي قُدٍّر لهم. وإلى استغلال ما أفاضت به الطفرة الاقتصادية من خيرات وأموال. وإلى تطاول أعناقهم لتبلغ صف رجال الثروة العريقين. لكن أقدامهم سرعان ما تنزلق بهم، فيخسرون مستقبلهم وماضيهم. وحينما يفوتهم قطار الثراء السريع، فإنهم ينقلبون إلى الماضي، ويحاولون التطهر من ذنوبهم، والتكفير عما اقترفوه، بيد أن أعمارهم تكون حينذاك، قد تآكلتها السنون، ولفظهم الزمن الذي أداروا له ظهرهم، في حارتهم الشعبية. يتنازع «ترمي بشرر» زمنان، زمن الحارة الآفل، ومكانها الآيل إلى التصدع والزوال، واضمحلال ذاكرتها الهرمة، وذواء أعرافها الموغلة في أعماق التاريخ، وعقم ما تناسلته من حكايات. والزمن الآخر، هو زمن الحداثة باشتراطاته وقوانينه ومنظوره، وسرعته الداهمة بسيل مصارفه وبورصاته، وأسواقه الفسيحة، ومطاعمه الفاخرة، وعماراته العملاقة، وسياراته الفارهة، وكاميراته السرية المتلصصة، وهواتفه النقالة الثرثارة. لم يستطع زمن الحارة الرخو، أن يبقى ماثلاً أو واقفاً، أمام هذه الأعاصير، فرضخ البعض إلى ما كُتب له. وخاب أمل البعض الآخر، باسترجاع رزقه من الصيد، فرمى بنفسه في لجة الأمواج (سالم البيغيني) أو لم يحتمل غابات الإسمنت تقتات من بحره الذي عاش فيه ومنه، فقضى نحبه، وهو يعترض التراكتور (حامد أبو جلمبو). ومن خلال نبرته الساخرة والمتهكمة واللاذعة، التي قلما قرأناها في الرواية السعودية بل العربية. ينحو عبده خال إلى تعرية أبطاله، وهتك القشرة، وتمزيق الأقنعة التي يخفون تحتها وجوههم الحقيقية، والى افتضاح أسرارهم، وهو إذ ينبش المهمش والممنوع والمكبوت، يكشف خداع سكان الحارة ورياءهم الديني، وشذوذهم الجنسي، وإتيانهم الفواحش والمنكرات. وفي القصر مرتع الإثارة، يضيء القاص بلغة تصويرية وانطباعية، مناطق اللذة المحظورة، ويسترسل في وصف مسلكية صاحبه العنيفة والماجنة، بما يذكر بقصص المركيز مارا دي صاد، وانحرافاته وشذوذه. وحيث يمثل الرجل ذروة اقتران المال بالنفوذ، تبدو قدرته لامتناهية، حتى لكأنها القدر الذي لا يُردّ قضاؤه. فينصب المكائد والدسائس لمنافسيه من أبناء طبقته، ومن أبناء الحارة الذين عملوا في خدمته. ويكون نصيبهم غياهب السجن، أو المصحات العقلية، أو رميهم عراة على أرصفة مدينة جدة، أو تصفيتهم بدم بارد على بوابات قصره. إذا كانت «ترمي بشرر» تحفل بالعديد من هذه النماذج ذات السلوكيات المنحرفة والنزوية، فلأنها، كما يُستشف من الرواية، ثمرة عوامل تربوية واجتماعية عديدة، يعانيها المجتمع، مثل الزواج غير المتكافئ، أو تعدد الزوجات، أو الشجارات العائلية الدائمة، أو الضنك المعيشي، أو قسوة الزوج على نسائه وأولاده. عوامل تولد عنفاً مكبوتاً، يجد تجلياته في القسوة الزائدة (قطع لسان خيرية وشراستها). أو في ارتكاب المعاصي. وتنعكس على أبطال عبده خال في فظاظتهم ورعونتهم وعدائيتهم ووصوليتهم. وقلما نلمح في نفوس أحدهم لحظة من النبل الإنساني، سوى عند أسامة، حيث يذرف دموعه على قبر حبيبته تهاني، بعد عشرين عاماً على قتلها، بما يعيد لنا ذاكرة الشعراء العذريين. وإذا كانت الطفرة الاقتصادية تزامنت مع نهوض الرواية السعودية، فإن الروائيين وجدوا أمامهم مادة مكتملة لمعالجتها في رواياتهم، راصدين عواقبها، ومفاعيل تحولاتها على الأمكنة والناس، لاسيما ما أصاب منزلة المرأة. وقد تراوحت هذه المنزلة في رواية خال، بين صورة المرأة اللعوب (مرام) والمرأة المخلصة (موضي) والمرأة الضحية (تهاني). وتصدرتها المرأة السلعة التي تمثلت في الرواية، بملحق لصورها المتفرقة والمتعددة الأسماء، كمادة احتياطية حكائية لا ينضب معينها.