تحتل قضايا حقوق الإنسان في العالم الثالث سبعين في المئة من تقارير المنظمات الدولية المختصة، رسمية ومستقلة على السواء. إلا أن هذه المنظمات أولت فنزويلا اهتماماً مميزاً منذ بدء «ثورتها الجميلة»، لا لأن صورة حقوق الإنسان هناك تغيّرت فجأة بعد وصول الرئيس هوغو تشافيز الى الحكم، بل لأن الفارق بين بعض إنجازاته على المستوى الإنساني، وبين استمرار التجاوزات الموروثة، يعكس واقعاً متناقضاً يدعو الى القلق والمتابعة. هناك إجماع دولي على إيجابيات ما أنجزته اشتراكية تشافيز: نجاح مقبول للمشروع الزراعي الذي منح الريفيين فرصة امتلاك واستثمار أراض جرى انتزاعها بالتراضي من الإقطاع التقليدي، تحسن الوضع المعيشي لفقراء المدن بعد رفع مستوى الدخل الفردي وتوظيف أعداد كبيرة منهم في المؤسسات الرسمية، واستحداث مستوصفات مجانية ومتاجر عامة لأصحاب الدخل المحدود. وعلى رغم الشوائب التي ظهرت لاحقاً في سياق ممارسة هذه المشاريع وتنفيذها، ما زالت تعتبر قفزة نوعية نسبة الى الوضع السابق. من جهة أخرى، ترى الأوساط الدولية عموماً أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2006 لم تشهد سوى ضغوط هامشية من جانب السلطة، ما يعني أن الشعب الفنزويلي كان لا يزال، حينئذ، مؤمناً بوعود تشافيز. في الأعوام اللاحقة كشفت منظمات حقوق الإنسان عدداً لا يستهان به من تجاوزات السلطة في فنزويلا، مما عرّض ناشطين وطنيين وأجانب لضغوط وملاحقات متعددة. مبدئياً فنزويلا ديموقراطية دستورية. إلا أن تجاوز الدستور وضرب عرض الحائط بالديموقراطية أصبحا فولكلوراً «ثوروياً» في السنوات الأخيرة. ازداد العنف الرسمي، بما فيه القتل، وازداد التعذيب في سجون أوضاعها الصحية والمعمارية متدهورة الى حد الاكتظاظ الخانق وتفشي الأمراض والأوبئة المميتة، فبين 24 ألف سجين وراء القضبان 60 في المئة ينتظرون التحقيق أو المحاكمة، أكثر من نصفهم تجاوزت مدة توقيفهم الفترة القانونية. في عام 2009 حدثت 39 جريمة قتل في السجون ارتكبها عمداً شرطيون وحراس. وفي مطلع العام الحالي سقط سبعة قتلى في اضطرابات واكبت انتفاضة الطلاب احتجاجاً على قمع الإعلام الحر في البلاد. وكانت وكالة «بروفيا» المحلية لحقوق الإنسان قد سجلت وقوع 247 إعداماً اعتباطياً منذ عام 2007 بعضها ناتج من لا أكثر من ملاسنة حامية بين سجين وحارس. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أعلنت وزارة الداخلية عن خضوع 18313 شرطياً للتحقيق في تجاوزات لحقوق الإنسان بما في ذلك الخطف والتعذيب والتوقيف الاعتباطي والقتل المتعمد. لكن العام الفائت شهد أيضاً ظاهرة مستجدة من القتل الجماعي، ففي 29 تشرين الأول خطف تسعة من رجال شرطة ولاية لارا، مع اثنين من عناصر الحرس الوطني، ستة أشخاص، عذبوهم واعدموهم وحاولوا إخفاء جثثهم. الضجة الإعلامية أجبرت السلطات على اعتقال الفاعلين وإحالتهم على التحقيق. ثم سجلت «بروفيا» عدداً من الإعدامات الفردية المماثلة لكنها لم تلق تحرك النيابة العامة، بينها جريمة قتل ذهب ضحيتها خمسة أشخاص في ولاية غواريكو عام 2007. التقرير الرسمي للأمم المتحدة عن الاقتصاد والمؤشر الاجتماعي في فنزويلا خلال الأعوام العشرة الفائتة يؤكد حدوث تطور إيجابي على أكثر من صعيد: الوضع المتدهور للسكن تحسن بنسبة 45 في المئة، علماً أن مشروع بناء ثلاثمئة ألف منزل، المقرر لهذه الفترة، لم ينجز منه سوى الثلث. فرص الحياة للمواليد الجدد وللأطفال الرضع وأطفال الحضانات والمدارس الإبتدائية شهدت تحسناً بنسبة 51 في المئة، وذلك بفضل توافر الخدمات الطبية وتوزيع مأكولات مغذية على تلاميذ المدارس الحكومية. غير أن الفلتان الأخلاقي والقوانين اللينة في مجال تسجيل الولادات، إضافة الى تزايد نسبة الطلاق، ما زالت تهدد الأواصر العائلية خصوصاً مع ارتفاع عدد الأطفال من دون آباء، إذ بلغت نسبتهم حوالى 35 في المئة في الحقبة المنصرمة. أما الاعتداء على السياسيين والقضاة والناشطين في مجالات حقوق الإنسان، فيعكس في تفاصيله مدى الارتباك والشطط في المؤسسات الإصلاحية والقانونية. الأمثلة كثيرة، من أبرزها قضية تفجير سيارة المدعي العام دانيلو اندرسن في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004 ما أدى الى وفاته. وكان اندرسن واحداً من الحقوقيين غير القابلين للرشوة أو للانصياع السياسي. وفي الثاني عشر من كانون الأول (ديسمبر) الفائت عثرت الشرطة على جثث مقطعة للقس الإنجيلي جان كارلوس سالازار وزوجته وابنته في منزلهم في مدينة سان هوسيه دي هوانيبا. في الفترة نفسها اقتحم اثنان من شرطة التفتيش الجنائي شقة المرشحة ليني مانويت، وانهالا عليها بالضرب والرفس وحطما أثاث منزلها. واقتحم آخران منزل الوزير السابق للدفاع وأحد منتقدي تشافيز، راوول بادويل، وفتشوا منزله من دون تفويض قانوني ثم اعتقلوه بتهمة سوء استعمال الموارد المالية أثناء ولايته. النائب العام أطلق سراحه بسند إقامة وأمره بالمثول أمام محكمة عسكرية مرة كل أسبوعين وعدم مغادرة البلاد. الناشط الطلابي نيكسون مورينو بقي مختبئاً في السفارة البابوية 15 شهراً الى أن منحه الفاتيكان حق اللجوء السياسي، وذلك بعد تزعمه تظاهرة في جامعة الانديس ومطاردة قوى الأمن له في كل مكان. داخل الوزارات والإدارات أفادت «بروفيا» أن السلطة عمدت الى ترهيب وترغيب الموظفين غير المنضوين في «الثورة»، وجرى طرد الذين لم يداوموا على حضور الاجتماعات المناصرة للحكم. وفي 18 أيلول (سبتمبر) الفائت رحّلت السلطات الفنزويلية هوسيه ميغيل فيفانكو، المدير العام لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» مع دانييل ويلكينسون أحد معاونيه، على اثر نشر المنظمة تقريراً عن الديموقراطية وحقوق الإنسان في ظل «الثورة الجميلة». على الصعيد النسائي يعتبر الاغتصاب أكثر الجرائم عدداً في فنزويلا. صحيح أن القانون يقضي بإنزال عقوبة السجن من ثماني الى 14 سنة بالمغتصب، إلا أن الاغتصاب، كسفاح القربى، من الجرائم التي قلما يجري التبليغ عنها، فمن جهة يلعب العار الاجتماعي دوراً محبطاً مرتبطاً بمسألة الفضيحة، ومن جهة أخرى يعفو القانون عن المغتصب إذا تزوج ضحيته، بصرف النظر عن رأيها أو رغبتها، وأي امرأة تستطيع العيش مع من اغتصبها؟ وتفيد الأرقام الموثوقة بأن 72 في المئة من النساء المغدورات قتلاً هن ضحايا أزواجهن أو أحد أقربائهن، وفي 64 في المئة من الحالات لأسباب جنسية. تلك دلالات نموذجية للتناقض بين إنجازات السنوات العشر الماضية في فنزويلا وبين ممارسات السلطة والتباس القوانين، وهي لا تختصر تقارير المنظمات الدولية لحقوق الإنسان بقدر ما تشير الى الخلل الضارب عميقاً في النسيج الاجتماعي بسبب إسقاط إيديولوجيا على شعب لم يكافح من أجلها، بل بات لا يعرف كيف يكافح ضد ما أصابه منها!