يدور في لبنان كلام كثير عن المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري، والجرائم ذات الصلة. الكلام هنا تشكيكي في الأغلب، ومرده الانفتاح اللبناني والعربي والدولي على سورية، والمخاوف من أن تطيح تسويات سياسية لبنانية وإقليمية ودولية بالإنجاز الموعود في ضاحية لاهاي والذي لم يقطف لبنان ثماره بعد. هذه المخاوف تترافق مع أخرى تستند الى «التأخير» في صدور القرار الظني وحقيقة أن لبنان سيبقى يساهم ب49 في المئة من تكاليف المحكمة... إلى أمور أخرى سياسية في الغالب. غير أن معظم الاتهامات التي تطاول عمل المحكمة، ينطلق مؤيدوها من فرضية أن لجنة التحقيق الدولية التي عملت على الجريمة منذ العام 2005 حتى العام 2009 لم تتوصل إلى دلائل تصلح لتكوين ملف غير قابل للنقض، بالتالي لتصنع قراراً ظنياً. مرت سنة واحدة على انطلاق المحكمة. لكن بالنسبة الى كثيرين ممن هتفوا لقيامها في السنوات الماضية، هي لم تنطلق. فلم يقف أي متهم في قفص الاتهام بعد، ولم يعلن اسم لمتورط في الجريمة. بل، على العكس من ذلك وبعد خمس سنوات على الجريمة، غابت لغة الاتهام المباشر عن ذكرى الاغتيال التي أقيمت في ساحة الشهداء على بعد أمتار من ضريح الحريري ومرافقيه، ورئيس حكومة لبنان سعد رفيق الحريري كان زار قبل الذكرى سورية وصافح رئيسها بشار الأسد، ومن هناك أكد أن المحكمة تعمل في لاهاي. وقبل ذلك أيضاً، كان النائب وليد جنبلاط «المناضل الأشرس» من أجل قيام المحكمة والمطالب ب «الثأر» من الذين اتهمهم بارتكاب الجريمة، يتابع إلتفافه، بعد إطلاق الضباط الأربعة، على خطاباته النارية محاولاً استرضاء من شن بالأمس حربه الخطابية ضدهم. بين 14 شباط (فبراير) 2005 والأول من آذار (مارس) 2010 تغير الكثير، لكن الأهم يبقى تخوف شارع المحكمة على مصيرها، ومن أن يكون ثمن هذه المصالحات إطالة أمد البحث عن العدالة. موجتان متناقضتان تتنازعان لبنان ومتابعي المحكمة الدولية، يزيد من تناقضهما اختلاف النظرة نحو المتغيرات السياسية المستجدة. المتفائلون بمستقبلها يرون أن المحكمة أنجزت الكثير خلال سنتها الأولى. فعلى رغم الظروف الصعبة التي رافقت تشكيلها في مجلس الأمن تحت الفصل السابع تمكن لبنان من أن يحصل على محكمة دولية هي الأولى في الشرق الأوسط للنظر في جريمة استتبعتها جرائم أخرى كادت تطيح بأمن لبنان واستقراره. وهي في الحال هذه، تعتبر خطوة أساسية على طريق العدالة الدولية يمكنها أن تضع حداً لحالة الإفلات من العقاب في البلد الذي شهد لسنوات مضت جرائم سياسية لم يُعرف مرتكبوها. التقدم هذا، تحدث عنه رئيس المحكمة انطونيو كاسيزي خلال زيارته الأخيرة لبنان، حيث أوضح انه «عند إنشاء المحكمة لم يكن لدينا مبنى ولا جهاز إداري ولا قضاة ولا مكتب دفاع. بدأنا من الصفر. ولم يكن لدينا قانون إجراءات جزائية يمكن أن ينظم العمل. وفترة السنة طبيعية لأي محكمة»، مستشهداً بتجربته السابقة عندما كان رئيساً للمحكمة الجزائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، حيث «بدأنا بمحاكمة أول شخص موقوف بعد ثلاث سنوات على بدء المحكمة عملها». لكن ما تحدث عنه كاسيزي لم يلق صدى كبيراً في المقلب الآخر. فهنا لا صوت يعلو فوق صوت القرار الظني على قاعدة أن «لا قرار ظنياً، لا محكمة». بالنسبة الى المتشائمين من التحولات السياسية فإنه لا يمكن النظر الى ما يجري في لاهاي بغض النظر عن التسويات السياسية. وبحسب مصدر متابع للقضية، فإن «القول إن المحكمة تعمل ليس دقيقاً. قد يكون جهازها الإداري يعمل، لكن على مستوى التحقيق، منذ مغادرة فريق لجنة التحقيق بيروت لم يحضر أي فريق تحقيق إلى لبنان أو حتى سورية. كيف يمكن إذاً بناء أدلة حاسمة لقرار ظني لا يمكن نقضه؟». الكلام هذا يشبه ما نقل عن الرئيس السابق للجنة التحقيق الدولية المستقلة القاضي الألماني ديتلف ميليس في اكثر من مناسبة وآخرها في مقال للصحافي مايكل يونغ في ال «دايلي ستار» قبل أيام. إذ نقل عن ميليس قوله إن «التحقيق خسر كل الزخم الذي تمتع به في كانون الثاني (يناير) 2006، عند استلام سيرج براميرتز رئاسة اللجنة». في حين تظهر تصريحات متفرقة لميليس أو منقولة عنه تململاً من العمل الذي ساد فريق التحقيق بعد تسلم براميرتز الذي «تخلى عن المحققين البوليسيين وجاء بمحللين، ونقل ملف الاتصالات من عهدة الفريق الدولي الى اللبناني، ما افقد برأي ميليس التحقيق معلومات وخيوطاً كانت ستوصل الى نتيجة». وفي هذا الإطار بالذات، يضع مراقبون سلسلة الاستقالات التي شهدتها المحكمة خلال عام واحد (استقالة مسجل المحكمة روبن فنسنت والقاضي هاورد موريسن والمتحدثة باسم المحكمة سوزان خان ثم مدير قسم التحقيق نجيب كالداس وبعده خلفه فنسنت ديفيد تولبرت). فقد افسحت الاستقالات المتتالية المجال أمام مزيد من التشكيك بمستقبل المحكمة والمعلومات التي اطلع عليها المستقيلون ودوافع هذه الاستقالات. غير أن الاطلاع على تجارب المحاكم الدولية الأخرى ومنها محكمة يوغسلافيا السابقة يسمح بالقول إن الاستقالات ليست علامة فارقة تميز محكمة لبنان، ففي محكمة يوغوسلافيا السابقة غادر مدير قسم التحقيق بعد سنة واحدة من تسلمه مهماته، كما غادر رئيس قلم المحكمة بعد ثمانية اشهر واستقال المدعي العام بعد شهرين. وعلى رغم ذلك واصلت المحكمة عملها. لكن مصادر متابعة لعمل المحكمة ترى أن السبب الحقيقي وراء هذه الاستقالات هو أولاً أن «لا بوادر تشير الى أن ثمة قراراً ظنياً سيصدر عن المحكمة قريباً. ولو كان تولبرت على يقين من أن العمل على ما يرام وأن القرار الظني بات وشيكاً ما كان ليستقيل، خصوصاً أن استقالته تلت مباشرة استقالة موريسن ولن يمكن لأحد أن يتفهم ذلك». وتبني المصادر على استقالة فنسنت لوجود خلافات بينه وبين بلمار، لتقول إن بلمار لم يعمل يوماً في الجرائم السياسية، وبالتالي لا خبرة له في هذا المجال. لكن هل يمكن أن تكون الاستقالات ومن قبلها تشكيك ميليس بطريقة عمل خلفه كافياً للتشاؤم حول مستقبل المحكمة، ولماذا لم يصدر عن المحكمة ما يؤكد أو ينفي هذا الكلام؟ الانطلاق من لجنة التحقيق للتشكيك بعمل المحكمة، أمر تراه الناطقة الإعلامية باسم المحكمة فاطمة عيساوي في غير محله. تقول ل «الحياة» إن «المحكمة ليست في موقع تقويم العمل الذي قامت به لجنة التحقيق الدولية المستقلة لأن ذلك لا يدخل ضمن مهماتها وخصوصاً أن المحكمة جسم قضائي مختلف ومستقل تماماً عن اللجنة». وتوضح أن «لجنة التحقيق تشكلت بقرار من مجلس الأمن في الأممالمتحدة لمساعدة السلطات اللبنانية في تحقيقاتها في جريمة اغتيال الحريري. مهمة المحكمة الخاصة بلبنان تشمل التحقيق والادعاء ومحاكمة المسؤولين عن جريمة اغتيال الحريري وجرائم أخرى في حال إثبات ارتباطها كما ورد في المادة الأولى من نظام المحكمة الأساسي». كلام عيساوي يزكيه كلام آخر لكاسيزي يضع فيه التشكيك بعمل المحكمة في خانة الصعوبات. فخلال لقاءاته في لبنان، أكد أن «لا علاقة لمحكمتنا بلجنة التحقيق الدولية، لأن هذه اللجنة أنشئت بقرار دولي بهدف جمع الأدلة والمعلومات وهي كانت لجنة تحقيق بينما محكمتنا مؤسسة قضائية وتعمل بموجب قوانيننا». غير أن الصعوبات التي تواجه محكمة لبنان «ليست بشيء مقارنة بتلك التي واجهت محكمة يوغسلافيا السابقة»، بحسب ما يتردد على لسان أكثر من متابع لأعمال المحاكم الدولية. ففي يوغسلافيا المشكلة لم تقف عند حد صعوبة الوصول الى مرتكبي الجرائم، بل تعدتها الى جوانب تقنية أولها عدم توافر التمويل. ويتردد أن قضاة ومحامين في المحكمة اضطروا الى استئجار ملابس المرافعة على نفقتهم الخاصة لحضور الجلسات، إضافة الى الشكوك الكثيرة التي دارت حولها. لكاسيزي نفسه قصته مع محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة التي تولى رئاستها. وهو يستند الى تجربته في تلك المحكمة ليقلل من أهمية الشكوك التي تلقى في وجه محكمة لبنان، والتي لا يمكن مقارنتها بالشكوك التي واجهت محكمة يوغسلافيا، وعلى رغم ذلك أكملت عملها وتوصلت الى نتيجة حقيقية. التمويل ومراقبة الإنفاق التمويل الذي لم يكن متوفراً لمحكمة يوغسلافيا، متوافر لمحكمة لبنان حتى العام الحالي. فلبنان يسدد ما يتوجب عليه ونسبته 49 في المئة من تكلفة المحكمة، في حين ساهمت دول أخرى بالقسم الباقي أي ب51 في المئة. غير أن تاريخ المحاكم الدولية الطويل قبل الوصول الى الأحكام، والتسويات السياسية التي يمكن أن تدفع في اتجاه المماطلة لسنوات كثيرة قبل الحصول على نتيجة، تجعل السؤال عن المستقبل واحتمالاته مطروحاً. يعكس الكلام الذي يتردد على ألسنة العامة في لبنان تخوفاً من أن يكون ما يدفعه لبنان يذهب لتأمين حياة رغيدة للعاملين في تلك المحكمة البعيدة، طالما أن لا محاكمات جرت حتى الساعة. غير أنه بحسب عاملين في المحكمة ومتابعين لأعمالها، فإن هذه الصورة لا تطابق واقع الحال في لاهاي، حيث رقابة مشددة على كل ما يتصل بالإنفاق، خصوصاً أن هناك دولاً عدة تساهم في تأمين موازنة المحكمة والتي بلغت للعام الحالي 55,4 مليون دولار تم التزام ضمان 90 في المئة منها. تتحدث عيساوي عن الآلية المعتمدة لمراقبة الأموال المرصودة للمحكمة. وتقول إن «المحكمة مسؤولة عن تقديم موازنتها كل عام أمام لجنة الإدارة التي تضم ممثلين عن كبار ممولي المحكمة واللجنة مسؤولة عن الموافقة على الموازنة ما يتطلب من المحكمة ان تبرر أي إجراء أو أي نفقة في موازنتها للحصول على موافقة اللجنة عليها». وتضيف أن «اللجنة تقوم بتقديم المشورة والتخطيط في كل ما يتعلق بالإدارة المالية للمحكمة ومن دون ان يكون لها اي دور في الإجراءات القضائية للمحكمة». وتزيد عيساوي أمثلة من محاكم أخرى إلى قول كاسيزي إن «المحكمة ملتزمة بمحاكمات سريعة وعادلة تلتزم أعلى معايير العدالة الدولية من دون إضاعة للإمكانات أو الوقت». تقول: «في المحكمة الجنائية الدولية كان القضاة ال 18 يداومون ويتقاضون راتباً منذ قيام المحكمة على رغم ان أول قرار اتهامي لم يصدر إلا بعد أربع سنوات وأول محاكمة كانت بعد ست سنوات. أما المحكمة الخاصة بلبنان فقد قررت انه من بين القضاة ال11، ثلاثة فقط يداومون الآن ويتقاضون رواتب نظراً الى عدم وجود حاجة الآن لحضور القضاة». كلام عيساوي عن مراقبة مالية لا قضائية تمارسها الدول الممولة للمحكمة عليها، قد يطمئن دافعي الضرائب في لبنان مرحلياً، بانتظار القرار الظني وبدء العمل الفعلي للمحكمة التي جمعت الى صفها - قبل انطلاقها - المجتمع الدولي والأممالمتحدة ومجلس الأمن، فهل يمكن هؤلاء جميعاً أن يسمحوا بفشل تجربة تتصل بالعدالة الدولية؟