بعد أن كان يقدمه على مدى أعوام الإعلامي اللبناني افرام قصيفي، عاد برنامج «اميركيون» إلى شاشة «الحرة» ليقدمه هذه المرة الإعلامي الجزائري محمد مختاري مواصلاً سبر أغوار حيوات الاميركيين من عامة الناس وسرد تجاربهم الإنسانية والعملية على اختلاف انتماءاتهم وفئاتهم. ولعل اللافت في هذه الانطلاقة الجديدة للبرنامج تخصيص الحلقات الأولى للعرب الاميركيين بما يشبه بانوراما توثيقية لتاريخ هجرتهم إلى بلاد العم سام وصيرورة حياتهم ومعاشهم واندماجهم وأماكن تواجدهم الرئيسية فيها، والمهن والحرف التي اشتهروا بها أكثر من غيرهم وصولاً إلى تداعيات اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عليهم، وغير ذلك من معلومات وتفصيلات مسهبة للإحاطة بالمشهد العربي الاميركي من كل جوانبه. فالحلقات حاولت قدر المستطاع تقديم رؤية موضوعية إلى واقع العرب الاميركان كما هو، بعيداً عن التهويمات والتوظيفات، عبر عرض قصص نجاح واثبات الوجود للعديد ممن تبوَّؤا مراكز عليا ومناصب مرموقة في مختلف ميادين الاجتماع والعلوم والسياسة والفن والإعلام والاقتصاد والثقافة والرياضة، شأنهم شأن مختلف الاميركيين. فأميركا كأمة مهاجرين معروفة تاريخياً بانفتاحها وتعدديتها وتسامحها، ما قدم دلائل ملموسة للمشاهد على تهافت الدعاوى الرائجة في ربوعنا والمؤبلسة للمجتمع الاميركي عبر وصفه بالعنصرية والاستعلاء، لاسيما حيال العرب والمسلمين. فمئات النماذج الناجحة التي قدمها البرنامج من شاكيرا وسلمى حايك وباولا عبدول إلى مايكل دبغي واحمد زويل وفاروق الباز ... تثبت أن الأصل العربي أو المسلم لا يشكل البتة أي عقبة أمام الاندماج والإبداع والتفوق في المجتمع الاميركي. وغني عن البيان أن هذه الدعاوى قد انتعشت خصوصاً بعد هجمات 11 ايلول الإرهابية في نيويورك وواشنطن التي وفرت أرضية خصبة لتعالي الأصوات المتطرفة والمغرضة في كلا الطرفين الاميركي والعربي الإسلامي والتي تمظهرت في ممارسات عملية لكنها سرعان ما خفتت وانحسرت مع تجاوز أميركا رسمياً وشعبياً لآثار الفاجعة حتى إنها خلال بضعة أعوام من الكارثة اختارت أول افرو اميركي ومن أصول مسلمة رئيساً في البيت الأبيض فهل أدل من ذلك على تجذر قيم المواطنة والمساواة والتسامح في بنى السياسة والاجتماع الاميركية. فالحال أن الحلقات التي تميزت بطابعها التوثيقي الدقيق وجهدها البحثي الرصين والموضوعي تستحق التقدير فهي سلَّطت مجهرها على المجتمع العربي الاميركي وتقصَّت احواله وأوضاعه وآماله وآلامه بمهنية ملحوظة وعبر عرض عشرات الحكايا والتجارب التي اختزلت مسيرة العرب الاميركيين بمشقاتها ونجاحاتها منذ هجراتهم الأولى وصولا إلى الاندماج والتغلغل في النسيج الوطني والمجتمعي الاميركيين. وكم بدت معبرة وطريفة مثلا تلك الحكاية التي سردها البرنامج في حلقته الأولى عن مهاجرة عربية طاعنة في السن، والتي تصادفت هجرتها إلى الولاياتالمتحدة مع حلول أعياد الميلاد فهي مع وصول الباخرة إلى الشواطئ الاميركية رأت الناس حولها يتبادلون التهاني مرددين عبارة «ماري كريسماس» فما كان منها عند تسجيل دخولها على الحدود الاميركية إلا أن ادعت أن اسمها ماري كريسماس حيث أن أبواب الهجرة وحتى بدايات القرن العشرين كانت مفتوحة على مصراعيها، فلا تأشيرات ولا وثائق وجوازات ولا من يحزنون فالبلاد الغنية والمترامية الأطراف كانت متعطشة للوافدين والمهاجرين الجدد للإسهام في بنائها وتطويرها دون أية اعتبارات وحسابات عنصرية. وها هنا يكمن تميز هذه السلسلة عن العرب الاميركيين كونها تسرد قصصاً واقعية لآلاف مؤلفة هاجروا إلى أميركا سعياً وراء الحلم الاميركي وهم حققوا ولا شك بغالبيتهم العظمى هذا الحلم عبر التمتع بحق المواطنة والمساواة والحرية والاستفادة من تكافؤ الفرص وروح المبادرة الفردية التي طالما شكلت مدماكاً لتحقيق كل مواطن في الولاياتالمتحدة حلمه الاميركي الخاص به. فالعرب يشكلون كما أظهرت هذه السلسلة مكوناً أساسياً من هذا الموزاييك الاميركي الباهر والجميل الذي يكتنز مختلف القوميات والأديان والألوان والأجناس في معيار المواطنة الاميركية التي هي، تعريفاً وتأسيساً، مركبة ومتعددة ومتداخلة الانتماءات والمصادر والجذور فهذه البلاد خليط من الهنود الحمر سكانها الأصليين إلى المهاجرين الأوروبيين الأوائل بناة الاتحاد الاميركي على اختلافهم إنكليزا وألماناً وإيطاليين وآيرلنديين إلى الاميركيين الهسبانك إلى الآسيويين منهم من اليابان وكوريا والصين إلى الأفارقة والعرب واليهود ... هي إذن محاولة من «الحرة» لعرض تاريخ وواقع العرب الاميركيين بما يدحض الادعاءات عن اضطهادهم وإساءة معاملتهم والتمييز ضدهم على ما يروج كثير من وسائل الإعلام العربية المؤدلجة التي تعتاش على قصة مواجهة «الشيطان» الاميركي وكشف مخططاته ومؤامراته المستمرة على الأخيار الطيبين حول العالم - تلك القصة الساذجة لكن الخطرة التي آن أوان القطع معها ودحضها معرفياً وتلفزيونياً. والمؤمل أن تكون هذه السلسلة الخاصة بعرب أميركا ضمن برنامج «اميركيون» مقدمة لتفعيل هذا التوجه في القناة الاميركية الناطقة بالعربية : توجه مخاطبة العرب الاميركيين وطرح قضاياهم ورؤاهم، إن على الصعيد الداخلي الاميركي أو على صعيد بلدانهم الأصلية، وعلاقات أميركا معها، ما يسهم في تعزيز اندماجهم وانتمائهم الاميركيين من جهة، وما يثبت من جهة ثانية صلابة الديموقراطية الاميركية وعراقتها وانفتاحها على جميع مواطنيها بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، عرباً كانوا في الأصل أو غير عرب الأمر الذي يعطي صورة صحيحة وبخاصة في العالم العربي عن واقع التعايش والتعدد والتنوع في بلاد العم سام بوصفه مثالاً جاذباً ونموذجاً صالحاً للمحاكاة والاستلهام. * كاتب كردي.