أواسط سنوات الستين من القرن العشرين، حين اندلع ما يسمى ب «الثورة الثقافية» في الصين الشعبية، كان كاتب شيوعي تجاوز الستين من عمره، واحداً من أول ضحاياها، على رغم الخدمات السياسية والدعائية الكثيرة التي كان قدمها لوطن «ماو الاشتراكي» خلال العقدين السابقين من السنين. إذ ذات ليلة، هاجم شبان الحرس الأحمر، بيت ذلك الكاتب واحتلوه، مصادرين مفتاح مكتبته مشتتين أسرته. ولاحقاً نجده هو نفسه رازحاً تحت أعباء سنينه وآلامه، مجبراً على القيام بما كان يسمى «النقد الذاتي». يومها تحمل ذلك الكاتب الكهل كل أنواع الذل والهوان وهو يسأل نفسه بكل براءة لماذا؟ ثم كأن ذلك كله لم يكن كافياً، أرسل الرجل الى «مدرسة السابع من أيار» التي لم تكن في حقيقتها سوى معسكر إعادة تأهيل على الطريقة الماوية، في الوقت الذي رفضت سلطات الحرس الأحمر تقديم أي عون لزوجته المصابة بالسرطان، فقضت نحبها بعيدة منه. هذا الكاتب اسمه باكين، ولد في العام 1904، وبدأ ينشر رواياته وقصصه القصيرة منذ أوائل سنوات الأربعين من ذلك القرن، ومنذ الستينات كان اسمه مطروحاً على الدوام كمرشح للفوز بجائزة نوبل للآداب. حين اضطهده حرس ماو الأحمر على ذلك النحو، كان يعتبر أكبر كاتب صيني على قيد الحياة... وكانت رواياته وكتبه بدأت تترجم الى لغات عدة في العالم. غير ان هذا كله لم يشفع له... ولم يشفع له أيضاً انه منذ البداية وقف الى جانب ثورة ماو ضد رجعية تشانغ كاي تشيك. وهو أمر يبدو واضحاً ومن دون أي التباس في واحدة من أشهر رواياته الكبرى وأولها: «ليلة مثلجة»... ومع هذا علينا ان نذكر هنا ان سلطات الكومنتانغ (تشانغ كاي تشيك) التي كانت مسيطرة على الصين يوم صدور هذه الرواية، سمحت بنشرها... أما صين ماو فصادرتها ما إن استتبت لها الأمور، ما أرغم باكين على صمت طويل. لماذا؟ لأن «الناقدة الأدبية الكبيرة» التي كانتها زوجة السيد ماو، وجدتها متشائمة! مهما يكن، فإن التهم التي وجهت لاحقاً الى باكين، عند اضطهاد «الثوريين الثقافيين» له، بقيادة السيدة ماو نفسها، كانت أكثر خطورة: اتهم من ناحية لكونه يسارياً، أي صاحب نظرة نقدية الى الأمور، واتهم من ناحية ثانية لأنه اختار لنفسه اسم باكين، المأخوذ من أول وآخر مقطعين في اسمي المفكرين والمناضلين الروسيين الفوضويين (با) كونين وكروبات (كين). كان الكل يعرف في الصين ان باكين اختار لنفسه ذلك الاسم المستعار منذ زمن بعيد جداً... لكن مجرد الاحتفاظ به كان يشكل ادانة في صين ماو! المهم في الأمر ان باكين، عاد ونفد بجلده من كل ذلك الاضطهاد، بدءاً من عام 1973، مع ان السلطات ظلت تنظر اليه بحذر... كما ظلت تتعامل بحذر مع كل تكريم يخص به في الغرب. لا سيما حين تترجم رواياته الكبرى، وفي مقدمها دائماً ثلاثيته «العائلية» ثم روايتاه الكبيرتان «حديقة الراحة»... وبخاصة «ليلة مثلجة»، التي حين ترجمت الى الفرنسية، ثم الى غيرها من اللغات الأوروبية في العام 1978، أحدثت ضجة كبرى، لم تستفد منها أعمال باكين وحدها، بل مجمل الأدب الصيني الذي راح، منذ ذلك الحين، يعرف عالمياً على نطاق واسع. موضوع «ليلة مثلجة» بسيط، ويمكن تلخيصه في بضعة سطور... ذلك ان احداث الرواية تدور في مدينة تشونغ - كينغ المزدحمة بالسكان، بعد ان هرب اليها عشرات ألوف اللاجئين، أمام تقدم القوات اليابانية الغازية... من هنا فإن كل أحداث هذه الرواية تدور تحت وطأة ذلك الخطر المحدق بالوطن... وعلى تلك الخلفية تصل بنا الرواية الى حياة ووضعية المثقف الكاتب شوين، الهارب بدوره لاجئاً الى هذه المدينة، والذي من خلاله يصف لنا باكين شروط الحياة البائسة والمهينة التي كان نظام تشانغ كاي تشيك يخص بها المثقفين. ان شوين الذي كان ذا أحلام أدبية وابداعية كبيرة، لا يجد هنا مفراً من العمل مصحّحاً في احدى دور النشر لاكتساب رزقه... وهذا الرزق ليس أكثر من دريهمات قليلة بالكاد تمكنه من العيش وسط ذلك المناخ السلطوي البيروقراطي المهيمن والذي ينظر الى كل من لا يتفق معه كلياً، نظرات مملوءة بالشكوك التي تتحول بسرعة الى مضايقات وملاحقات. غير ان هذا ليس كل شيء في حياة ذلك المثقف الطيب، فهو إضافة الى ذلك، مريض وذو وضع خطير، كما كان يعيش أيامه عاجزاً شاهداً على الصراعات اليومية التي تدور بين أمه وزوجته... ثم لا يمكنه ان يفعل شيئاً حين ينتهي الأمر بزوجته الى الرحيل. أما الرواية نفسها فإنها تقف عند درب مسدود وهو أمر يصفه باكين بكلمات قليلة انما عابقة بما يعتري امرئاً غير قادر على ان يحسم أمره بين الأمل واليأس. هل كانت هذه الرواية سيرة ذاتية لباكين؟ هو لم يقل هذا أبداً... بل ان في سيرته ما قد يتناقض مع هذا الافتراض. ومع هذا، لا يفوت القارئ ان يلاحظ مقدار الحميمية التي يصف بها الكاتب حياة «بطله» ومعاناته. ومهما يكن فإن باكين نفسه يحدثنا في نص كتبه عن «ليلة مثلجة» وظروف كتابتها، عن ظروف عاشها في مدينة كويلن في ذلك الحين، لا تبدو شديدة البعد عن الظروف التي عاشها شوين في الرواية، فيقول انه في شتاء العام 1944، في الوقت الذي كان العدو الياباني يحتل تلك المدينة «كنت أقطن في غرفة صغيرة تقع في مبنى دار «الحياة الأدبية» للنشر (...). في المساء كنت أجد نفسي مجبراً على جعل شمعة دائمة الإعداد لكي تضاء حتى أتمكن ليلاً من الكتابة، انا الذي كنت أنام متأخراً، إذ طوال الليل كان تحرك الجرذان يمنعني من النوم. أما خلال النهار، فكانت تطن في الغرفة أصوات الباعة والمارة وضجيج الأجراس وطبول المسرح من حولي (...) وفي ذلك المناخ بدأت أكتب روايتي «ليلة مثلجة»، مع علمي بأنني أبداً لم أكن كاتباً كبيراً... بل كنت، وكما سيصفني أحد النقاد لاحقاً «مجرد انسان يتجسس على الحياة من خلال شق في جدار» لأنني «لا أجرؤ على مواجهة الواقع الدامي». ومن هنا أراني لم أتحدث في كل كتاباتي إلا عما شاهدته، وسمعته وعشته. وفي هذه الرواية لم أفعل أكثر من انني وصفت حياة وآلام رجل مصاب بالسل، هو في الوقت نفسه مثقف لا أهمية له. كل ما يمكنني قوله بصدد هذا، هو انني لم أكذب أبداً. لقد شاهدت آلام هذا الرجل بأم عيني، وهي آلام بقيت محفورة في رأسي حتى اليوم. إن تلك الآلام هي التي أجبرتني على امساك القلم والكتابة، مكان أولئك الذين كانوا يبصقون دماً، ومكان أولئك الذين سيموتون وسط آلامهم». ويقول باكين إن كتابة هذه الرواية استغرقته عامين. هذه الرواية أثارت إعجاباً عاماً... ولكن في وقت متأخر، ذلك انها حين نشرت في الصين للمرة الأولى، لم يبلغ عدد النسخ المباعة منها سوى بضعة آلاف قليلة، علماً أن أية رواية كانت تصدر في الصين، كانت تباع بمئات آلاف النسخ. مهما يكن فإن باكين نفسه يعتبر «ليلة مثلجة» من أهم أعماله. وهو قال هذا بنفسه ذات يوم للكاتب الفرنسي ايتيامبل، حين زاره هذا في الصين، وسأله عن أي من رواياته يحب ان تترجم الى الفرنسية، اضافة الى ثلاثية «العائلة»، فذكر الاثنتين اللتين صارتا الأشهر لاحقاً «ليلة مثلجة» و «حديقة الراحة». أما سيرة باكين فتقول لنا ان اسمه الأصلي هو لي فيغان، ولد في شنغدو عاصمة اقليم سيتشوان، وأحس منذ صباه بالظلم الاجتماعي، الذي وعى أسبابه لاحقاً حين أقام في فرنسا طوال عامين (بين 1927 و 1929) وكتب أول تجربة أدبية له بعنوان «دمار»، فأسبغت عليه شهرة مبكرة. وهو منذ ذلك الحين كتب أكثر من عشرين رواية وعدداً كبيراً من القصص القصيرة وكتب الرحلات، كما خاض العمل السياسي، الى درجة انه كلف في العام 1949 بمهمات ومسؤوليات من جانب سلطات ماو الثورية، على رغم التعامل السيئ مع رواياته. وهو بعد محنته المرة مع حرس الثورة، وصمته الطويل، استأنف نشاطاته الأدبية كاتباً ومترجماً ومعلقاً، منذ العام 1973، من دون ان يأبه كثيراً حين يحدثه زواره أو أصدقاؤه عن انه واحد من كبار المرشحين الجديين لجائزة نوبل. [email protected]