تمر الصناعة النفطية العالمية حالياً بتغيرات أساسية وتاريخية، يتعلق أهمها بانعكاسات النمو الاقتصادي العالي والمستدام في البلدان الناشئة، خصوصاً الصين، حيث يبلغ النمو السنوي ثمانية إلى 10 في المئة، مقارنة بواحد إلى ثلاثة في المئة في البلدان الصناعية الغربية. أصبحت هذه الأنماط من النمو «اعتيادية» سواء في ظل الأزمات أم في الأحوال الطبيعية، وهي تنعكس محاولات لشركات النفط الأوروبية، مثل «توتال» الفرنسية و «إيني» الإيطالية، إغلاق بعض مصافيها لتقلص الاستهلاك وفائض سعة التكرير وانخفاض هامش الربح على المنتجات النفطية في الغرب، في حين تُشاد مصافٍ عملاقة وحديثة في بلدان بآسيا والشرق الأوسط لتلبية الطلب المتزايد على المنتجات النفطية. يكمن المتغير الثاني في بروز دور شركات النفط الوطنية بعد ثلاث عقود تقريباً من تأسيسها. تختلف تجارب هذه الشركات طبعاً بين بلد وآخر، فمنها من استطاع أن يوسع أعماله دولياً وإلى مجال البتروكيماويات، وبعضها استطاع الولوج في مجال البحوث والتطوير، أسوة بالشركات النفطية العملاقة، فيما استطاع بعضها الآخر أن يطرق أبواب الأسواق المالية العالمية للاقتراض لصالح مشروع معين من دون الاعتماد فقط على التمويل من قبل الحكومة المالكة للشركة. والأهم من هذا وذاك أن تجارب الشركات الوطنية تختلف بحسب الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلد المعين، ومدى هامش حرية العمل الذي تتركه الحكومات لهذه الشركات في الاستثمار والتخطيط والتعيين والتمويل، ناهيك عن الابتعاد بقدر الإمكان من الانخراط في المحسوبية والفساد الشائعين في الدول النامية. ومن الشركات النفطية المرموقة، هناك مثلاً «أرامكو السعودية» و«بتروناس» الماليزية و «بتروبراس» البرازيلية و «بيمكس» المكسيكية و «قطر بتروليوم» و «أدنوك» الظبيانية والشركات الصينية. معروف أن تجربة الشركات الوطنية لم تكن سهلة، إذ لاقت منافسة شديدة من الشركات العملاقة التي تدعمها حكوماتها في الأوقات الحاسمة في المنافسات الدولية، والتي يتوافر لها رصيد كبير من رأس المال من طريق طرح أسهمها في البورصات العالمية، والأهم من هذا وذاك دورها المستمر في الاهتمام بالبحوث وتطوير التقنية لديها، وهذا تحدٍّ مهم ما تزال الشركات الوطنية متأخرة فيه. المتغير الثالث هو انتشار الاهتمام البيئي عند الرأي العام العالمي، ومحاولة البعض استغلال هذه الظاهرة سياسياً ضد بعض الدول العربية المنتجة للنفط. وتوسع الاهتمام البيئي ليشجع بقدر الإمكان تطوير بدائل للطاقة غير المصادر الهيدروكربونية. وهذا تحدٍّ بعيد الأجل يُتوقع أن يستمر هذا القرن، ونتائجه غير واضحة إلى الآن. لكن واضح أن النفط والغاز سيخسران بعض أسواقهما خلال العقود المقبلة. وواضح أيضاً أن هناك تحديات ومسؤوليات تقع على صناعة النفط لإنتاج «وقود أخضر» أكثر ملاءمة للبيئة، وأقل تلويثاً، وذلك للمحافظة على ثقة المستهلك بالمنتجات النفطية، وتوسيع الأسواق بدلاً من تقليصها. أما المتغير الرابع فهو الاهتمام المتزايد الذي تبديه شركات النفط للرأي العام، ودور الحوكمة في سياساتها، على عكس الوضع سابقاً عندما كان الاهتمام الرئيس لهذه الشركات العملاقة هو جني الأرباح وخدمة مصالح بلادها الاستراتيجية. طبعاً، يبقى موضوع الأرباح والحصول على أحسن عائد ممكن للمساهمين من أولويات الشركات العملاقة، ناهيك عن خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية لبلدانها. لكن الاهتمام بالحوكمة وبالتجاوب مع أولويات الرأي العام بدأ يطغى على تفكير المسؤولين النفطيين وأولوياتهم. ولا يظهر ذلك فقط في خطب المسؤولين وعلى المساحة التي يولونها لهذا الأمر في المواقع الإلكترونية لشركاتهم، بل أيضاً على تقييم اقتصاديات مشاريعهم، إذ لا يخلو أي مشروع عن دراسة بيئية حول الآثار المحتملة على البيئة المحلية. وتتعهد الشركات علناً بنبذ الرشوة في أعمالها، لكن ما يزال هذا الأمر يكتنفه كثير من الضبابية، إذ إنه لا يعتمد على أولويات الشركات فقط بل على أخلاق المسؤولين في الدول المعنية أيضاً. ما هو إمكان استمرار هذه المسارات التاريخية؟ إن إمكان الاستمرار واسع، لكن هناك احتمالات التقهقر أو التباطؤ. ففي حال الصين، التي أنقذت صناعة النفط العالمية خلال هذه المرحلة بارتفاع طلبها في مقابل خمود الطلب في الدول الصناعية الغربية، هناك احتمال يردده بعض الاقتصاديين يستبعد استمرار هذا المستوى العالي من النمو، باعتبار أن الأمر ليس إلا فقاعة ستتلاشى قريباً. طبعاً يتغاضى هؤلاء الاقتصاديون عن المخزون الهائل من إمكان التنمية الصينية، بتحويل ما يقارب 300 مليون نسمة من المزارعين (يساوي تقريباً مجموع عدد سكان الولاياتالمتحدة) إلى مستهلكين حضريين، وما يتطلبه هذا من نمو ووقت. ويكمن التحدي الأهم للنفط في استقرار الأسعار. فمن غير المقبول للمستهلك هذه الطفرات في الأسعار نتيجة للمضاربات، إذ إنها ستنفره عن البنزين ووقود التدفئة وتضطره إلى اللجوء إلى مواد طاقة بديلة وبأسعار منافسة. وسيصبح هذا الأمر في متناول اليد اقتصادياً في المستقبل المنظور. وهناك من ثم أهمية دور منظمة «أوبك» في استقرار الأسعار، والضغوط المستمرة لتهميش دور المضاربات على أسعار النفط. وهذه عملية ليست سهلة لارتباط المضاربات بالأسواق الرأسمالية المفتوحة. * كاتب متخصص في شؤون الطاقة