الظاهرة التي ينعاها بعضنا تحت اسم «الردة الدينية»، ويحتفي بها آخرون تحت اسم «الصحوة الإسلامية» تحتاج اليوم إلى نظرة مختلفة وتقييم مغاير. واضح أنها ليست عارضاً تاريخياً عابراً يزول تلقائياً أو بمساعدة القمع. وهي بالمثل ليست «الحل» أو حامل الاستقرار السياسي والنفسي إلى مجتمعاتنا. الواقع أن تحقّقاتها في إيران والسودان وأفغانستان ليست مما يغري بالاقتداء. وأن تنظيماتها المنتشرة في جميع بلدان العالم الإسلامي ليست تلك القوى التحررية الواعدة بالمساواة والعدالة، وأن كبار الناطقين باسمها أو المباركين لها يجمعون بين الغرور المفرط وضآلة الإحاطة بكل ما هو خارج مجالهم. ومع ذلك فإن الظاهرة الإسلامية موجودة وقوية، ويشكل التعبير السياسي المركزي عنها (تنويعات الإخوان المسلمين) القطب الثاني في معظم بلداننا بعد السلطات الحاكمة. وهي بعد لظاهرة مركبة، طيفها واسع، لا تلتئم حول «الإسلام السياسي» ولا ترتد إليه، خلافاً لما يفضل الاعتقاد الإسلاميون السياسيون أنفسهم، ولما يهول به أعداء سياسيون وإيديولوجيون لهم. وللظاهرة الإسلامية بعد تاريخ، تتمايز فيه أطوار مختلفة، يبرز فيها العمل العنفي مرة، والسياسي مرة، والاجتماعي الدعوي مرة ثالثة. والخصومات والصراعات داخلها شائعة لا يخفق في رؤيتها إلا من يصدر عن «ذهنية تحريم» حيال تشكلات الظاهرة الإسلامية جميعاً. لا تتوحد المقاربتان، «الرِّدَّوية» و «الصَحَوية»، في انفعالهما المبتئس مرة والمبتهج مرة فقط، ولا في أحكامهما المعيارية القاطعة المضمنة في اسميهما بالذات، وإنما كذلك في لا تاريخيتهما. تفتعل الأولى مفارقة باسم العصر أو الحداثة: كيف يظهر إسلاميون يريدون «تطبيق الشريعة»... في القرن العشرين أو الحادي والعشرين؟ كأننا من صناع العصر، نشارك غيرنا حداثة ناجزة، ونسهم في حفز دينامياتها وتطوير تنظيماتها. ويفتعل الإسلاميون مفارقة باسم الهوية: كيف تنهض أمة تخلت عن شريعتها أو دينها...؟ كما لو أننا مجتمعات متماثلة مع ذاتها طوال ثلاثة عشر قرناً، مبدأ تماثلها هو «الإسلام»، الذي حصل أن تخلت عنه سهواً أو طيشاً قبل قرن أو قرن ونصف. غير أن أبرز أوجه اللاتاريخية المشتركة بين «الصحويين» و «الرِّدَّويين» أن كلا منهما تنظر إلى مذاهب الأخرى وتشكلاتها الفكرية والسياسية كواقعة عابرة تاريخياً، ظهرت في غفلة من الزمن، وسوف تتلاشى حين تزول الغفلة التي لا يكف المتكلمون باسم كل واحدة منهما عن التنبيه إلى المخاطر المهولة إن دامت وقتاً أطول. وبينما تدومان معاً، لا يبدو أن دوامهما يهز اقتناعاً مشتركاً بأن هذه أو تلك فاصل تاريخي زائل. ويكمل الانفعال واللاتاريخية نظرة جوهرانية إلى كل من الإسلام والحداثة (التي يستند إليها في الحكم بالردة على الظاهرة الإسلامية) تقرر تخارجاً تاماً بينهما وتنافياً تاماً لهما. الإسلام طاهر مطهر من الحداثة التي هي بمثل طهره منه. خارج التفكير أن الحداثة (والعلمنة) تتقدمان عبر «الإسلام» ذاته، وأن الظاهرة الإسلامية في أوجهها الفكرية والسياسية متشكلة وفقاً للحداثة. فليست عقيدة الحاكمية الإلهية، مثلا، غير صيغة مؤسلمة عن الدولة الشمولية في القرن العشرين، وقد كان أبو الأعلى المودودي معجباً بها، وسيد قطب خصماً لدوداً ثم ضحية لتنويعتها المصرية. ولم يجد الشيخ القرضاوي ما يسوغ به شمولية الإسلام غير ما بدا له من شمولية الإيديولوجيات القومية والاشتراكية الحديثة. يسهل تكثير الأمثلة، لكن خلاصتها تتوحد في أن «الإسلام» اسم لإجابات عن أسئلة تطرحها الحداثة (الديموقراطية، الاشتراكية، العلمانية، الاقتصاد الإنتاجي، حقوق الإنسان...). ولا يعدو الإسلام أن يكون مرجعية لغوية رمزية لإجابات عن أسئلة لم يطرحها. الأصل في ذلك إرادة الإسلاميين تشميل الإسلام كل شيء. لكنهم بهذا يفقدونه اتساقه الذاتي. كانت استراتيجية أجدى بكثير لو عملوا على إعادة هيكلة الإسلام عبر التمييز بين ما هو جوهري فيه وثابت وبين الثانوي والمتغير الذي يتعين أن يعاد بناؤه حول هذا الثابت. كان من شأن ذلك أن يتيح لهم استلام زمام المبادرة ومساءلة الحداثة، بدل تشميل شكلي لا يكاد يخفي احتكار الحداثة وحدها للمبادرة والسؤال. لا معنى للقول، تالياً، إن الإسلاميين يرجعون بمجتمعاتنا 1400 سنة إلى الوراء. لا يرجعون يوماً واحداً. الأمر لا يتعلق برجعة أو ردة، بل بتفاعل متعثر أو ارتكاسي، لكنه تاريخي ومعاصر جداً. والخلاصة أن «الإسلام» ليس موجوداً خارج الحداثة والعلمنة. إنه اسم لمركّب علاقات وعمليات اجتماعية تاريخية، أبرزها ظاهرة الصحوة – الردة الإسلامية المعاصرة، وليس جوهراً مماثلاً لذاته. وهو لا يوجد إلا بمحصلة تلك العلاقات والعمليات التي قد تسمى الأسلمة. «الإسلام» نتاج الاسلمة النوعي والقناع الذي تحتجب خلفه، خلافاً لما يفضل أن يرى الأمر الصحويون والردويون على حد سواء، ممن يشتقون الأسلمة من إسلام ثابت مصمت لا يشبه غير نفسه. وأول ما يترتب على ذلك أن العلاقة بين الحداثة (ومنها العلمنة) والأسلمة ليست محكومة بمحصلة صفرية، وأنه يرجح لمزيد من الانخراط في الحداثة أن يغذي مزيدا من الأسلمة، وكذلك مزيداً من الصراع مع الأسلمة ومحاولات ضبطها وإصلاحها. هذه عملية مفتوحة، فرصنا أكبر في التأثير على محصلاتها باتجاه يثمر حلولا متسقة لمشكلاتنا السياسية والنفسية والأخلاقية بقدر ما ننخرط فيها ونضع أنفسنا على مستواها، لا فوقها ولا خارجها. بهذا المعنى يتعين النظر إلى الظاهرة الإسلامية المعاصرة وإلى الصراع معها كفرصة كبرى لا يوفرها شيء آخر من أجل توليد ثقافة أغنى وأكثر تحرراً وتفكير أكثر جذرية من جهة، ولتأهيل بنى سياسية وصيغ للدولة أكثر ديموقراطية وعدالة من جهة أخرى. أو ربما نقول هي تحد إيجابي يتعين أن نستجيب له وننهض به. وأن يطرق هذا التحدي بابنا حظ طيب، وليس بلاء نرتعب منه. يحول دون تبيّن ذلك مدرك الردة الدينية ذاته. فهو يضمر حتماً تاريخياً بزوالها لكونها مناقضة ل «منطق التاريخ»؛ وما فيه من حكم تبخيسي، بل تحريمي، يضمر أيضا تزكية لاستئصالها العنيف على نحو ما استؤصلت «الردة» التالية لوفاة نبي الإسلام؛ وهو ينطوي أخيراً على نظرة تقديسية للحداثة، تقترن مثيلاتها دوما برفع شأن الأفكار والعناوين المجردة والتقليل من شأن البشر الملموسين ومطالبهم وتطلعاتهم. وفي حين أن للفصل بين الدين والثقافة على هذا النحو المصفّح أحياناً ببطانات انفعالية سميكة ضلعاً في تعثر أو إخفاق صيغ التفاعل القائمة اليوم بين «الإسلام» و «الحداثة»، نميل إلى تزكية اشتغال أكبر للثقافة بالدين واشتباك أوسع معه سبيلا إلى تفاعلات أكثر إيجابية. لا نرى كيف تتولد الثقافة العلمانية بينما تنكص الثقافة أمام الدين وتتوجس من التعامل معه.