تحدثت في مقال سابق عن مفهومي للتطرف والتعصب، ولم يتسع المجال للتطرق إلى الغلو وحدوده. يقول عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، وهو ما زاد في توضيحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «إياكم والغلو في الدين هو عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال»، والغلو بمعنى الإفراط وتجاوز الحد قد استعمله القرآن في موضعين، وبالنظر إلى لفظي الغلو والتطرف نجد أنهما بمعنى واحد إذا كان التطرف إتيان غاية الشيء ومنتهاه، والألفاظ الباقية كالعنف والتنّطع والتشّدد فجميعها بمثابة أوصاف ومظاهر للغلو، فالغالي يتسم في أخذه للدين بالشدة، وفي معاملة الآخرين بالعنف، وبالتنّطع في أفعال الدين. أمّا الإرهاب الذي هو نتاج التطرف في الفكر فنجد أن مفهومه غير محدد، لأن معياره المرن وارتباطه بالبيئة السياسية لم يساعد على تأطيره رسمياً أو تعميمه. وحين جاء ذكره في سورة الأنفال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...» عُني به الترهيب كما في تفسير المراغي، أي الإيقاع في الرهبة وهي الخوف المقترن بالاضطراب، ولكن مشكلة تعريف الإرهاب إنما يرتبط خلافها حول ما يمكن اعتباره نشاطاً يستوجب الإدانة، وما يُعد كفاحاً مشروعاً. وقد تبلور المفهوم في الفكر المعاصر بعد قيام الثورة الفرنسية، وما جرّته من عنف بشع، ليس تصفية لأعداء الثورة فحسب ولكن للحيلولة دون محاولة الآخرين للتصدي أو الدفاع عن محكوميهم أيضاً. وبما أن الإرهاب يمكن أن يُمارس من جانب السلطة السياسية الحاكمة إزاء مواطنيها، مثلما يمكن أن يستخدم من جانب الآخرين ضد السلطة ومن يمثلها، وكما يمكن أن يمارسه أفراد جماعة وطنية ضد قوات وممثلي الدولة التي تحتل أراضيهم، تماماً كما يمكن أن يُمارس من جانب تلك القوة المحتلة إزاء المواطنين المدافعين عن أوطانهم، فإن جوهر الخلط والتشويش الذي يكتنف مصطلح الإرهاب يتعلق بالخلط بين «الوسيلة» و «الهدف» أو بين «الأداة» و «الوظيفة». وعليه، فمن الممكن لأية حركة تحرير وطنية ضد سلطة استعمارية أن تصب في خانة «الإرهاب»، فإذا انتقلنا إلى «جرائم الإرهاب» فلا تعريف موحداً لها كذلك، ومع هذا فقد نظر إليها على أنها تبعث الذعر وتنشئ خطراً عاماً يهدد عدداً غير محدد، وتعتمد أساليب وحشية، كإتلاف الخطوط الحديد وتسميم مياه الشرب ونسف المباني. الإرهاب، بمعنى الإخافة سواء أكان منظّماً بأحزاب وجمعيات، أم غير منظم بها، وسواء كان سافراً على شكل قتل وتعذيب ونحوهما، أم مستتراً بضغط اقتصادي واجتماعي، إنما يدخل في عموم النصوص المحرمة لدم المسلم وعرضه وماله. وغاية القول، إن الإرهاب لا يقتصر على موضوع معين، أو يختص بمستوى دولي أو إقليمي، وإنما تتعدد مجالاته وتتنوع أساليبه، وتتطور أفكاره وفق غاياته، لذا فإن تحليل ظاهرته، يجب أن يكون متعدد الأوجه، ومعتمداً على معلومات مستقاة من وثائق تاريخية، وسجلات ومحاكمات، وقراءات مكثفة لعلوم الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، يصاحبها وعي نفسي ينهل من منابع علم النفس فيسهم جميعه في تفسير النشاط وأسبابه ونتائجه، وطرق مكافحته، ومن دون هذه الإحاطة الشاملة كيف يمكن استيعاب ظاهرة الإرهاب بأبعادها؟ [email protected]