لم تكن عملية اغتيال عضو قيادة حركة «حماس» في الخارج محمود عبد الرؤوف المبحوح في دبي، سوى رسالة إسرائيلية واضحة وبالغة الدلالة في الزمن الراهن الذي يلعب فيه رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو كما يشاء في ظل التغطية والانحياز الأميركيين لسياسات إسرائيل. جاءت عملية الاغتيال التي نفذتها الاستخبارات الإسرائيلية، كما تشير المعلومات التي اعلنتها سلطات دبي، في سياق النهج الإسرائيلي المعروف منذ قيام الدولة العبرية عام 1948، حيث كانت التصفيات وما زالت تشكل اسلوباً اسرائيلياً بامتياز، وحرفة مهنية مميزة، وممهورة بخاتم جهاز «الموساد» وسجله المليء بعمليات الاغتيال. فقد نفذ جهاز «الموساد» المئات من عمليات التصفية التي طالت كوادر وقيادات وعلماء فلسطينيين وعرباً وحتى أجانب في أكثر من مكان في العالم، وفي أكثر من عاصمة عربية من بيروت الى تونس الى دمشق الى دبي ... وعلى رغم أن محمود المبحوح، اللاجيء الفلسطيني القادم من مخيم جباليا في قطاع غزة الى سورية، والذي استهدفته عملية الاغتيال الجبانة، لم يكن من قيادات الصف الأول في حركة «حماس»، إلا أن الرسالة الإسرائيلية باستهدافها مقاتلاً فلسطينياً منخرطاً في اطار إحدى القوى الأساسية في المقاومة الفلسطينية وعلى ارض دولة الإمارات العربية المتحدة، يعني أن إسرائيل غير آبهة بما يسمى «عملية التسوية» مع الأطراف العربية، وأن حدود الجغرافيا لن تمنعها من مواصلة عملياتها التي لا تحترم الأعراف والقوانين الدولية، بل تستبيح أراضي الآخرين كما تستبيح القانون الدولي. فضلاً عن الرسالة الثانية التي أرادت حكومة نتنياهو من خلالها التأكيد على ما تقوم به بعد فشل الجولة التاسعة للمبعوث الأميركي جورج ميتشل في المنطقة، التي عاد منها خالي الوفاض، بل استبق نتانياهو قدوم ميتشل الى المنطقة بوضع حجر الأساس لمستوطنات جديدة حول مدينة القدس. ويمكن القول إنه للمرة الأولى استطاعت الأيدي الأمنية الإسرائيلية أن تصل الى مدينة دبي، لتطال أحد العاملين في صفوف التيار الإسلامي لحركة المقاومة الفلسطينية. وهذا الاختراق النوعي يعتبر بحد ذاته الإنجاز الأهم لجهاز «الموساد» بعد سلسلة العمليات الفاشلة التي خبت بريقه بعدها في الشارع الإسرائيلي، خصوصاً أن مدينة دبي ودولة الإمارات هي بين الأكثر استقراراً في المنطقة والعالم، على صعيد الأمن الفردي والمجتمعي والسيادي. كما أن اختيار إسرائيل لأرض دولة الإمارات لتنفيذ عملية الاغتيال يمس بالصميم الدور القومي الذي تقوم به هذه الدولة على الصعيد العربي وفي مجال دعم نضال الشعب الفلسطيني. فالإمارات استقبلت الشهر الماضي رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في بادرة تحمل دلالات مباشرة وقوية، كما كانت استقبلت الرئيس محمود عباس في سياق المساعي العربية لرأب الصدع في البيت الفلسطيني. من هنا يمكن القول إن الأغراض الإسرائيلية من وراء تنفيذ عملية اغتيال المبحوح لا تقف عند حدود المس بكادر فلسطيني من حركة «حماس» فقط، بل تتعدى ذلك الى المس بدور الإمارات وبأمنها الداخلي واستباحتهما في وضح النهار، مستغلة الفسحة المتاحة من الإمارات التي تستقبل أقوام الأرض كافة عبر أراضيها ومطاراتها المفتوحة لقوافل الناس والترانزيت بين الشرق والغرب. وعلى هذا الأساس فإن هناك من يصف عملية الاغتيال باعتبارها من وزن العملية التي قام بها جهاز «الموساد» الإسرائيلي في الستينات من القرن الماضي ضد العلماء الألمان في مصر، ومن وزن عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت في نيسان (ابريل) 1973، عضوي اللجنة المركزية لحركة «فتح» محمد يوسف النجار وكمال عدوان، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الشاعر كمال ناصر، وكذلك اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (ابو جهاد) في منطقة حمامات الشط في العاصمة التونسية يوم 16/4/1988. ومن المعروف أن إسرائيل وبسبب طبيعتها العنصرية، في حاجة إلى نقل أشكال من المعركة وأنماط القتال الى ما وراء الحدود في حالات معينة، وتتبع سياسة تقتضي الصمت في شأن أية عملية اغتيال في أي مكان إذا لم تكن هناك أدلة واضحة على دورها، بما في ذلك الاغتيالات في الضفة الغربية وقطاع غزة. هذه السياسة التي تتسم بالغموض والتي قال عنها شيمون بيريز ذات يوم أن فوائدها اكبر بكثير من الإفصاح عنها، كما هي الحال بالنسبة الى ترسانة إسرائيل من الأسلحة الذرية. وعليه فإن توسيع ساحة الاغتيالات من قطاع غزة الى دبي يتغذى من غياب المساءلة الدولية والملاحقة من قبل الدول التي تقع جرائم الاغتيال فوق أراضيها، إضافة الى استغلال إسرائيل لليهود في العالم الذين يحملون جنسيات مزدوجة أوروبية وإسرائيلية، لاختراق الأمن القومي للبلدان المختلفة والقدوم إليها لتنفيذ عمليات الاغتيال تحت ذرائع مختلفة مثل السياحة أو الأعمال التجارية... الخ، وهو ما حصل حين قام عدد من الإسرائيليين الذين يحملون جوازات سفر كندية بمحاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي ل «حماس» خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمان في عام 1997، وكذلك في عملية الاغتيال الأخيرة في دبي، حيث أشارت المصادر الأمنية في دبي الى أن التحقيقات المبدئية أظهرت أن معظم المشتبه بهم يحملون جوازات سفر أوروبية، وأن التحقيقات الأولية ترجح أن الجريمة ارتكبت على يد مجموعة متمرسة كانت تتبع تحركات المبحوح قبل قدومه إلى دبي. من هنا، فإن الجهود المطلوبة الآن من قبل الأجهزة الأمنية في دولة الإمارات يفترض أن تتجه نحو تفكيك أسرار عملية الاغتيال والوصول الى الجناة، وكشف جوازات السفر الأوروبية التي طالما تلطى خلفها جهاز «الموساد»، وبالتالي مطالبة الدول الأوروبية بإعادة النظر في سلوك مواطنيها من حاملي الجنسيات المزدوجة مع إسرائيل، الذين طالما كانوا وما زالوا تربة خصبة لعمليات التجنيد والمهمات القذرة التي يمارسها جهاز «الموساد». * كاتب فلسطيني