لم يكن لكتاب «أرشيف لبنان» للفنانة البولندية آنيا دبروشكا أن يبصر النور، لو لم تلعب المصادفة دورها في الكشف عن مخزون ثمين من الصور توثق للحياة اليومية في لبنان وبعض الدول العربية التي بقيت مخبأة لعقود. والفضل الأول يعود للمصور اللبناني دياب القرصيفي الذي احتفظ في منزله ببعلبك بهذا الأرشيف الثري من الصور والأفلام و «النيغاتيف»، بعد أن غادر لبنان عام 1993 حيث عمل مصوراً محترفاً، ليقيم في لندن. تروي الفنانة البولندية دبروشكا، المقيمة في لندن، كيف التقت دياب واكتشافها الكنز الذي كان يخبئه: «عام 2010 كنت أشرف على ورشة عمل للمشردين في كامدن، إحدى ضواحي لندن، حينما برز بينهم رجل أبيض الشعر كان يبدي اهتماماً بمجال التصوير». وتضيف: «في صباح أحد الأيام جاء دياب إلى الاستديو وهو يحمل حقيبتين مليئتين بالصور وأفلام نيغاتيف ملفوفة بأوراق صحف قديمة وتعلوها طبقات من الغبار، مدون عليها بعض الملاحظات من تواريخ وأسماء وأماكن، ما يوحي بأنها تخفي تحتها تأريخاً يبحث عن نافذة». وتروي بشيء من الدهشة: «كفنان، تسمع أحياناً عن اكتشاف مجموعات فنية مجهولة، لكن لا تتوقع أن يحصل ذلك معك. وفجأة أتلقى في الاستديو الخاص بي هذا الكم الهائل من الكنز المجهول. والأكثر إثارة للدهشة أنه تم إحضار هذا الكنز من جانب الشخص الذي صنعه». أما القرصيفي، فيقول ل «الحياة» أن «التصوير كان هوايتي المفضلة منذ الصغر. كنت أستأجر كاميرا من أبو عصام شمص، صاحب استديو شمص الشهير على طريق رأس العين في بعلبك، إلى أن أهدتني والدتي الكاميرا الأولى». ويزيد: «كنت شغوفاً بالتصوير. أصور كل شيء حولي، من الأسرة والجيران والأطفال الذين يذهبون إلى المدارس، ورحلات الصيادين إلى الجبال، والنساء العاملات في المنازل، وأماكن ومناسبات، كالأعراس والمآتم وأعياد الميلاد والنزهات وشاطئ بيروت، فضلاً عن كبار الشخصيات والمشاهير الذين زاروا بعلبك وقلعتها التاريخية». لا يقتصر أرشيف القرصيفي على الصور التي التقطها وأرّخ بها لجانب من الحياة الاجتماعية في لبنان في ذلك الوقت، بل يضم مجموعة كبيرة من الصور، بعضها من ألبوم عائلته، وبعضها أعطي له من جانب أصدقاء وجيران، موضحاً أن «الأرشيف أخذ يتوسع بعدما صرت معروفاً بولعي بتجميع الصور، إذ بادر الكثير من الأصدقاء والأقارب والجيران إلى إرسال صور، الكثير منها أصلي ونادر». ويتابع أنّ أقدمَ صورة في أرشيفه تعود إلى عام 1884، وهي لجده دياب حين هاجر إلى الولاياتالمتحدة. ويضم الكتاب صوراً لشخصيات اجتماعية وسياسية تؤرخ لزيارات تاريخية، بينها زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز بعلبك عام 1966، وصورة لجورجينا رزق، ملكة جمال الكون، إلى المدينة نفسها عام 1977. كما يضم صوراً لأعضاء جمعية ماسونية في بعلبك، وجمعيات اجتماعية، وإضرابات وتظاهرات. ويقول القرصيفي أن «كل صورة في الكتاب تروي حكاية، وكل لقطة تحكي قصة، حتى يمكن اعتبار الكتاب تاريخاً بالصور لا بالكلمات». وعلى رغم ضخامة الأرشيف الذي يحتفظ به القرصيفي، والذي يربو عدد صوره على 27 ألفاً، فضلاً عن نحو 400 ساعة تصوير فيديو، إلا أنه يبدي أسفاً على فقده الكثير من الصور التي كان يحتفظ بها في منزله ببعلبك. وعن علاقته بالفنانة آنيا يقول القرصيفي: «بعد اطلاعها على الصور التي أحضرتها إلى محترفها في لندن أعجبت بها كثيراً، واعتبرتها كنزاً، واتفقنا على إخراجها، أو إخراج بعضها إلى النور». وزاد: «وكان التجسيد الأول لهذا الاتفاق إقامة معرض صور لي في لندن باسم «ذكريات مثقوبة» عام 2013، حضره ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز، فيما كنا نعمل في الوقت نفسه على إصدار كتاب ننشر فيه جزءاً من الأرشيف». ويضيف أن العمل على إصدار كتاب «أرشيف لبنان» (241 صفحة) استمر نحو 5 سنوات، ومُوّل طبعه من طريق مساهمات وتبرعات شخصية، إلى أن أبصر النور أخيراً، وتم إطلاقه في احتفال أقيم في لندن في التاسع من أيلول (سبتمبر). ولفت القرصيفي إلى «العمل المضني» الذي بذله هو والفنانة البولندية آنيا، تخللته زيارة مشتركة إلى لبنان عام 2013 «بغية التأكد من صحة توثيق بعض الصور والمناسبات والأماكن». لا يخفي دياب حنينه وتعلقه بمسقط رأسه بعلبك، على رغم ابتعاده عنها أكثر من 22 سنة. فهي حاضرة دائماً في أفكاره وطموحاته ومشاريعه. فيقول «أطمح الى إنشاء معرض دائم في بعلبك، تكون نواته الأرشيف الذي أملكه، ويتوسع ليضم أرشيفاً ثانياً وثالثاً و... في شكل يتيح الفرص للناس لمشاهدته والاطلاع على الحياة الاجتماعية في تلك الفترة، فضلاً عن الاهتمام بتنمية مواهب الشباب، خصوصاً في فن التصوير». ويضيف: «كما لدي فكرة إصدار كتاب في عنوان «يوم في حياة امرأة بعلبكية» يوثق للمرحلة من 1940 إلى 1993، عام مغادرتي لبنان إلى لندن»، إضافة إلى «فيلم وثائقي صغير يوثق للمجتمع البعلبكي، للعادات والتقاليد، في الأعراس والأفراح، والمآتم، والتراث، والسياحة، والأكلات وغيرها». وحقق دياب القرصيفي بعض أحلامه. فمع إصدار آنيا دبروشكا كتاب «أرشيف لبنان» يبصر الكثير من صور أرشيفه النور، فاتحة المجال لمبادرات تكمل ما بدأته آنيا. فالصورة، كما يقول دياب، «لها الدور الأكبر في التأريخ للحدث، بل إن الصور تعبر في شكل أفضل من الأرشيف المدوّن على رغم أهميته. فالصورة تقول ما لا يستطيع المؤرخ قوله».