يتجه السودان بعد نحو شهرين الى تجربة انتخابية جديدة في ظل تعددية سياسية بعد 24 عاماً من آخر انتخابات ديموقراطية جرت في البلاد في 1986، والبلاد التي مضى عليها 54 عاماً منذ استقلالها من الاستعمار البريطاني في عام 1956، تخللها 11 عاماً بين فترتين انتقاليتين، أعقبتها انتخابات تعددية، أفرزت حكماً ديموقراطياً موؤداً، و43 عاماً من الحكم العسكري، وخلال ما يزيد عن نصف قرن من الاستقلال لا يزال دستور السودان موقتاً. وشهد السودان انتخابات برلمانية لخمس مرات في تاريخه أولها أجريت في 1953 قبل استقلال البلاد أشرفت عليها لجنة من مصر والمملكة المتحدةوالولاياتالمتحدة والهند، وجرت الانتخابات البرلمانية الثانية في 1958، والثالثة 1965، وآخر محطة انتخابية في 1986 جاءت عقب الإطاحة بحكم الرئيس السابق جعفر نميري، وشارك فيها نحو 3,9 مليون ناخب، وحصد فيها حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي غالبية مقاعد البرلمان وصار رئيساً للوزراء حتى أطاح بحكمه الرئيس عمر البشير في انقلاب عسكري في حزيران (يونيو) 1989، ليتولى أطول فترة حكم في تاريخ البلاد. في كل الفترات الانتقالية السابقة جرت انتخابات في مرحلة تحول ديموقراطي، كما بعد الانتفاضة الشعبية في 1964 التي أطاحت حكم الرئيس السابق إبراهيم عبود ثم انتفاضة مماثلة في 1985 أبعدت الرئيس السابق جعفر النميري عن السلطة، وستكون الانتخابات المقبلة هي الأولى التي ستُجرى في فترة انتقالية في زمن حكومة حزبية وصلت الى السلطة عبر انقلاب عسكري. وستكون الانتخابات المقبلة كذلك مختلفة تماماً عن سابقاتها، فلأول مرة في تاريخ السودان ستجرى انتخابات رئاسية متعددة، كما أنها ستشمل انتخاب رئيس الجمهورية وحكام الولايات والبرلمان القومي ورئيس حكومة إقليمجنوب السودان الذي يتمتع بحكم ذاتي، وبرلمان الجنوب ثم برلمانات الولايات. ويعتبرها خبراء انتخابات معقدة، إذ يحتاج الناخب الى فترة زمنية ليست قصيرة للإدلاء بصوته في ظل أنظمة انتخابية يختلف فيها التصويت الفردي في الدوائر الجغرافية، وفيها التمثيل النسبي وفيها اللوائح الخاصة بالنساء ولوائح أخرى للأحزاب ونتائجها تحسب بأساليب مختلفة، فبعضها يتطلب الغالبية المطلقة وبعضها يتطلب الغالبية البسيطة، ونوع ثالث يأتي عبر النسب التمثيلية، ويزيد الأمر تعقيداً ارتفاع نسبة الأمية، كما أن نحو نصف عدد الناخبين من الشباب الذين لم يشاركوا في أية انتخابات في حياتهم، ما دفع مفوضية الانتخابات الى تمديد الفترة المحددة للاقتراع من يوم الى ثلاثة. وبلغ عدد الذين سجلوا أسماءهم في سجل الناخبين رقماً غير مسبوق، إذ زاد على 16مليوناً، وإذا صوّت 60 في المئة من المسجلين فهذا يعني ان عدد المقترعين سيصل الى عشرة ملايين ناخب وهو رقم كبير مقارنة بالحد الأقصى الذي وصله عدد الناخبين في آخر انتخابات تعددية جرت في 1986، اذ كان عدد الناخبين نحو أربعة ملايين، والأهم من ذلك هو ان ستة ملايين من هؤلاء سيشاركون للمرة الأولى في حياتهم في الانتخابات. وحظّرت مفوضية الانتخابات على الناخبين حمل أجهزة الهاتف الخليوي لحظة الاقتراع وذكرت أن نتائج تجارب اقتراع أجرتها أوضحت أن الناخب في شمال البلاد سيحتاج إلى 120 ثانية لإكمال عملية الاقتراع، فيما سيحتاج الناخب في الجنوب إلى 40 ثانية إضافية، فى وقت تجاوز إجمالي عدد مراكز الاقتراع في السودان 21 ألف مركز منها 14 ألفاً في الشمال يستقبل الواحد منها خلال أيام الاقتراع الثلاثة 900 ناخب، في وقت يستقبل المركز الواحد في الجنوب 633 ناخباً. ويتوقع خبراء ان يؤدي ضعف تثقيف الناخبين الى إلغاء الكثير من أوراق الاقتراع لأخطاء يرتكبها الناخب عن جهل في مثل هذه العملية المعقدة، ويشيرون الى ان انتخابات اتحاد المحامين التي جرت حديثاً وشارك فيها نحو خمسة آلاف محام تم إلغاء 10 في المئة من البطاقات لأخطاء ارتكبها المقترعون. وعلى رغم ذلك يلاحظ أن الجهد المبذول لتثقيف الناخب لا يتساوى مع التحدي الذي يواجه الناخبين، والقوى السياسية بإمكاناتها المحدودة مازالت غير قادرة على الانتشار في ولايات البلاد الممتدة في مليون ميل، لتوعية الناخبين، ومع وجود تقديرات بأن أكثر من نصف عدد الناخبين لا ينتمون الى أحزاب فإن هناك مخاوف من السلبية وضعف المشاركة. وبدأت الحملة الانتخابية وسط توقعات بسباق ساخن، ويتنافس في الانتخابات التي تستمر حملتها 56 يوماً - تنتهي قبل يومين من الاقتراع في 11 نيسان (إبريل) - أكثر من 14 ألف مرشح يمثلون 66 حزباً يسعون الى نحو 2000 مقعد في المستويات كافة، إضافة إلى 12 متنافساً على الرئاسة أبرزهم مرشح حزب المؤتمر الوطني الحاكم الرئيس عمر البشير ورئيس الوزراء السابق، زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، ومرشح «الحركة الشعبية لتحرير السودان» ياسر عرمان. عقبات اضافية واشتركت جميع الأحزاب الكبيرة في هذه الانتخابات باعتبار أنها مراقبة دولياً، وأعلنت مفوضية الانتخابات ضوابط الحملة، والتي شملت توزيع الفرص للمرشحين في وسائل الإعلام الرسمية من إذاعات قومية وخاصة، إلى قنوات فضائية ووكالة السودان للأنباء الرسمية، التي تعهدت بإتاحة الفرص لكل الأحزاب للترويح لبرامجها الانتخابية بعدالة. ومن المشكلات التي تواجه المفوضية القومية للانتخابات التي تشرف على العملية التشكيك من قبل بعض الأحزاب، والقوى السياسية المعارضة في صدقيتها واستقلال قراراتها، واتهامها بالانحياز، الى الحزب الحاكم، والحديث عن تزوير الانتخابات. وشددت المفوضية المشرفة على الانتخابات على الجانب الإجرائي لكن الظروف السياسية المعقدة تحيط بالعملية التي ستُجرى في ظروف احتقان سياسي وظروف صراع دموي ما زالا يدوران في دارفور وحرب أهلية وضعت أوزارها منذ خمس سنوات في جنوب البلاد، ولكن آثارها لا تزال باقية، إذ ينتشر سلاح غير شرعي في الإقليم واحتراب قبلي دموي يحصد الأرواح وأمن غير مستتب في أماكن عدة. وهذه ظروف لا تتحكم فيها المفوضية ولا تتحكم فيها الأحزاب ولا يمكن تجاوزها إلا بعمل جماعي واتفاقات مسبقة تتسم بالصدقية والجدية. إضافة الى ذلك هناك خلافات مستمرة بين شريكي الحكم «حزب المؤتمر الوطني» و «الحركة الشعبية لتحرير السودان» ومن بين القضايا العالقة أمور ذات صلة مباشرة بالعملية الانتخابية مثل ترسيم الحدود بين شمال البلاد وجنوبها، والخلاف على نتائج التعداد السكاني الذي يهدد الجنوبيون بسببه بمقاطعة الانتخابات البرلمانية التي تستند عليه. ويعتقد مراقبون ان استمرار هذا الخلاف يشكل خطرا كبيراً على الانتخابات ويهدد بإجهاضها. وثمة عنصر آخر مرتبط بالمنافسة ونزاهتها، هو عدم ثقة قوى المعارضة والشريك الأصغر في الحكومة «الحركة الشعبية» في حياد حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي يسيطر على مفاصل الدولة والحكومات المحلية في الشمال وترى المعارضة ان الحزب الحاكم سيستخدم إمكاناته المالية وسلطته في تجيير الانتخابات لصالحه، وتشير الى ان سجل هذا الحزب في انتخابات منظمات المجتمع المدني والاتحادات الطلابية والمهنية والنقابات تؤكد انه «أجاد أساليب الخديعة الانتخابية لإضفاء شرعية على أجهزته من خلال انتخابات تفتقد الى الصدقية». وقد دعا اتفاق السلام الى إجراء انتخابات من دون ان ينص على حكومة قومية أو حكومة محايدة تشرف على إجرائها وكانت حجة الوسطاء الذين اشرفوا على محادثات السلام بين طرفي النزاع ان شأن الانتخابات يمكن ان يوضع تحت إدارة لجنة مستقلة محايدة تملك الصلاحيات لكي تجري انتخابات حرة ونزيهة ذات صدقية تحت رقابة محلية ودولية. وينتظر ان تحقق الانتخابات - في حال إجرائها - تغييراً في السودان مهما كان الرابح أو الخاسر، ولو فاز بها الحزب الحاكم فإنه لن يكون حزب المؤتمر الوطني الحالي، فإذا فاز الرئيس عمر البشير فلن يكن هو نفسه اليوم لأنه شرعيته لن تكون مستمدة من الدبابة التي حملته الى السلطة أو حزبه الذي سانده وانما الإرادة الشعبية وبالتالي فإن تعامله سيكون مختلفاً، وكذلك حكام الولايات الذين كان يتم تعيينهم بقرار من القصر الرئاسي في الخرطوم، مما يعني ان الانتخابات ستكون قاطرة للتحول الديموقراطي، ستعقبها مرحلة هي الأخطر في تاريخ البلاد منذ استقلالها، وهي استفتاء مواطني إقليمجنوب السودان على تقرير مصيرهم في كانون الثاني (يناير) 2011، وعندها إما أن يظل السودان بخريطته الحالية أو ينشطر الى دولتين فنشهد ميلاد دولة «السودان الجديد».