عندما قرأ الشاعر توفيق صايغ مخطوطة «موسم الهجرة الى الشمال» التي كان أرسلها اليه للتو الطيب صالح في العام 1966 بغية نشرها في مجلة «حوار»، عمد صايغ، مؤسس المجلة ورئيس تحريرها، الى حذف مقطع صغير من الرواية وجد أنه قد يعرّضها للمنع في بضع دول عربية. لم يعترض الطيب صالح على هذا الحذف فهو كان أصلاً يتخوف من شخصية «بنت مجذوب» في الرواية، كما عبّر في رسالة له الى صديقه توفيق لاحقاً، بعدما منعت الرواية في الكويت. وأبدى في هذه الرسالة احترازه من حملة قد تقوم بها «جهات متزمتة» ضد الرواية، قائلاً لصديقه: «أحس أن «بنت مجذوب» ستسبب لي صداعاً كبيراً». بعد مضي نحو أربعة وأربعين عاماً على صدور الطبعة الأولى من رواية «موسم الهجرة الى الشمال» في مجلة «حوار» (خريف 1966) اكتشف الكاتب محمود شريح الذي أوكلت اليه مهمة العمل على «أرشيف» الشاعر الراحل توفيق صايغ، المقطع المحذوف، وهو لا يتعدى الاثني عشر سطراً. وجد شريح هذا المقطع خلال انكبابه على جمع الرسائل التي تبادلها الشاعر والروائي بين عام 1963 وعام 1967، وهي ستصدر قريباً في كتاب، سيكون حتماً مرجعاً مهماً يلقي أضواء جديدة على الظروف التي كتب فيها صالح روايتيه «موسم...» و«عرس الزين»، وعلى الصداقة المتينة التي جمعت بينه وبين صايغ الذي كان له أثر كبير فيه، كما يعترف، وكان كذلك أول من اكتشفه وحثه على الكتابة وفتح أمامه أبواب مجلة «حوار»، هذه المجلة الفريدة والراقية، التي كان اليسار العربي يعدّها ذات نزعة يمينية، واليمين العربي ذات نزعة يسارية. وهذا الالتباس جعلها ضحية حملة دفعت صاحبها الى ايقافها، بعدما رُوّجت اشاعة حول تمويلها الأميركي. وكان الصايغ براء من هذه التهمة، هو الشاعر الفلسطيني الذي جعل من القضية الفلسطينية قضية وجود أو كينونة. تحمس توفيق صايغ كثيراً لرواية «موسم الهجرة...» التي كان يطارد صاحبها عبر الرسائل، محرّضاً إياه على إنهائها. وكم كان فرحه كبيراً عندما صحح مسوداتها وأرسلها الى الطباعة، كما يعبر في رسالة له الى صالح، وكأنها روايته هو. ويقول لصديقه في الرسالة نفسها إن هذه الرواية «ستكون قنبلة أدبية». وهكذا كانت فعلاً هذه الرواية، ولم تمضِ فترة قصيرة على صدورها حتى أمست بمثابة «الأسطورة». كان حدس توفيق صايغ صائباً جداً، فما أن قرئت الرواية في مجلة «حوار» التي نشرتها حتى لقيت ترحاباً كبيراً. ويكتب صايغ الى صديقه قائلاً: «الجميع هنا يلهجون باسمك ويثنون على الرواية». وينقل له ما قاله محمد الماغوط عن الرواية واصفاً إياها ب «الفريدة» و«العمل الخارق». لكن الصدمة الأولى التي واجهت الرواية هي منعها في الكويت بحجة أنها «تتضمن ألفاظاً وعبارات تتنافى مع الآداب العامة»، علماً أن صايغ كان حذف المقطع الذي شعر بأنه سيثير حفيظة الرقابات العربية. هذا المقطع الذي حرم منه قراء الرواية التي لم تعد تحصى أرقام مبيعها في طبعاتها المتتالية، سوف يعود الى الرواية في طبعة تعمل عليها دار «نلسن» انطلاقاً من نسخة مجلة «حوار» التي بات يملك حقوقها محمود شريح. والقراء سيكتشفون أن هذا المقطع لم يعد يمكن اليوم وصفه ب «الاباحي»، فهو مقطع خجول جداً وخفر، نظراً الى ما اعتاد القراء المعاصرون أن يقرأوا من نصوص إباحية. بل قد يثير وصف هذا النص ب «الاباحية» الكثير من الاستغراب والتعجّب لدى هؤلاء القراء، لا سيما أنه خال تماماً من أي مفردة نافرة أو عبارة مقذعة. وهو أصلاً يستحضر احدى المرويات الشعبية الرائجة في السودان ومفادها أن «بنت مجذوب» اشترطت على الرجل الذي يريد الزواج من احدى بناتها ألا يقل طول «بضاعته» أو «آلته» (هكذا وردت) عن «تسعة أشبار». وأورد صالح هذا المقطع في روايته من قبيل السخرية أو الفكاهة الشعبية. هذا المقطع لن يضيف جديداً الى الرواية ولن يؤثر في بنيتها أو سياقها السردي، لكن نشره قد يثير فضول قراء الرواية، وما أكثرهم. لم يكن الطيب صالح إباحياً ولا هو فكّر يوماً في أن يصبح كاتباً إباحياً، مهما وقع في الاغراء. أما توفيق صايغ فلم ينسَ يوماً أن والده كان قساً بروتستنتياً وأنه خضع لتربية لا تسمح له في أن يكون ذا نزعة إباحية. ولعل ما ظنه الاثنان، الشاعر والروائي، إباحياً في الستينات ليس هو اليوم إلا بمثابة «نكتة» أو طرفة سرعان تنتهي في لحظة سردها.