قد تكون أغنية «سهرتُ» التي كتبها حسين شوقي نجل امير الشعراء احمد شوقي، وغناها محمد عبدالوهاب في فيلم «دموع الحب»، هي العمل الغنائي العربي الحديث الذي أثار أكبر النقاشات التي لا تزال تدور رحاها حتى اليوم. وهي الأغنية التي رافق فيها عازف العود اللبناني الكبير صليبا القطريب عبدالوهاب الذي كان يفضله على كبار أساطين العود في ذلك الزمان من مثل محمد القصبجي ورياض السنباطي وفريد غصن وسواهم. وفي هذه الأغنية أطلق عبد الوهاب الدور الكبير للأكورديون لتشبيع مقام النهاوند والنوأثر حلماً وروحانية ووحدانية. الآن وبعد قرابة 75 سنةً على ولادة هذه الأغنية المفصلية، ينبري فريق من الشباب الموسيقيين اللبنانيين ويطلقون أول إنتاج فني لهم، متخذين من الأغنية عنواناً لعملهم. و«سهرتُ» هو عنوان أسطوانة تضم أحد عشر عملاً فنياً، موزعة بين 7 أغان ومعزوفة واحدة وموشح وتقاسيم على القانون والكمان نفذها خمسة عازفين هم: نعيم الأسمر (عود وغناء)، خالد صبيح (بيانو)، غسان سحاب (قانون)، أحمد شبّو (كمان) وبشار فران (كونترباص). أما الأغاني فكانت على التوالي: «سهرتُ»، «جفنه علم الغزل»، «نجوى»، «يا ناعماً»، «الصبا والجمال» لمحمد عبدالوهاب، و «ما دام تحب بتنكر ليه»، و «الأمل» لأم كلثوم، إضافة الى معزوفة «ذكرياتي» لمحمد القصبجي. تعتبر «سهرتُ» واحدة من أهم الأغاني العربية وأصعبها، وفضلاً عن انتقاء الاسم عنواناً لافتاً مفرط الإيحاء والوقع الصوتي الموسيقي العالي وفقاً لاجتماع أحرف الهمس والهلهلة والتفخيم طبقاً لأحكام التجويد، فقد أدى نعيم الأسمر كل هذه الأغاني لا سيما «سهرتُ» بأمانة وصدق من دون أي نشاز، وهو نادراً ما نعهده لدى المبتدئين. إن اختيار مجموعة الأغاني هذه اختيار صعب يحمل ابعاداً شاسعة لا يمكن بلوغها إلا بالموهبة المصقولة بالدرس والتدريب (وهذا أمر بديهي). ولعل أغنية «سهرتُ» التي أبدع فيها الأكورديون مداعب الشجن والولع والحلم واحدة من فلسفات عبدالوهاب المفصلية البالغة التوتر والحساسية، التي لحنها على إيقاع Tango من مقام النهاوند والنوأثر. تكمن عقدة هذه الأغنية في تلحين فقرة «أما رأيت حبيبي» من مقام السيكاه البلدي العربي الأصل، منتقلاً الى الراست المباغت، فالنهاوند الذي هو اصل المقام، الأمر الذي يتطلب مهارة وموهبة غنائية عالية لطالما أربكتا الكبار. وفي هذا كسر للغناء التقليدي البسيط، السائد وتمرد على أجناس المقامات وعقودها، وهي محاولات قام عبدالوهاب وتجرأ على الكثير من مثلها وقد كانت ميزة انفرد بها لنفسه عن سواه من الملحنين والمغنين. وكان الأسمر حريصاً وأميناً ومتقناً أداء هذه الأغنية وتلك الفقرة منها على وجه التحديد. كذلك تميز اداء الفرقة بعازفيها كافة بالانسجام والتمكن والتنفيذ الحساس الدقيق الذي يؤلف وشيجة نوعية هاجسة مهمومة بتوفير أكبر قدر ممكن من القبول وإقناع الملتقي، مع العلم ان قلة عدد العازفين في اعمال غنية ودسمة غالباً ما يفضح اعضاءها ويوقعهم في إرباكات إن لجهة الألحان لجمل موسيقية محمولة على الزخرفة والتلوين والتنوع وتشابك الإيقاعات، أو لجهة الغناء المكتوب تنفيذه بأنفاس متصلة مترابطة، قد لا تتقطع إلا لثوان قليلة ونادرة كيلا تتبدد أو تتلاشى نشواتها ومعطيات أحوالها الطروب. ولعل أداء الأسمر اغنية «سهرتُ» في المقدمة فيه شيء من رسالة أراد ان يقول للمستمع عبرها انه المؤدي المتقن الذي لن تفلح أي اغنية اخرى في جعله يقع في شراكها. فمن يغني هذه الأغنية غناء سليماً متقناً لا نشاز فيه يكون اجتاز قطوع الغناء العربي وقطباته ومشكلاته الكثيرة المتنوعة. في صوت الأسمر ثمة ما يشي ببعض من ارتجاج أو رجفة أضفت على سمعي شيئاً من الخوف عليه، وأنه سيتعثر هنا في هذه الجملة أو ربما في تلك، إلا انه نجا منها جميعها، ولم تتمكن أي من الأغاني العملاقة هذه أن تنال أو تفت في عضد عزيمته وإقدامه على منازلتها. إلا ان ما بدا نافراً، ونافلاً ومحشوراً في غير مكانه هو موشح «امدح المكمّل». هذا الموشح أو المديح النبوي في معرض غنائي طربي بحت لا مجال إزاءه ان يُحمل لا على الصوفية ولا الأندلسيات، ولا حتى الأذكار. كذلك فإن اختيار أغنية «الأمل» لم يكن متلائماً ومنسجماً مع اجواء اغاني عبدالوهاب ومناخاتها. وقد بدا اختلاف أجواء المدرستين وتعارضهما واضحاً وجلياً، اذ من المعروف ان ملحن «الأمل» هو زكريا أحمد المولع بالتطريب والتطويل الغنائي العربي التقليدي، قياساً مع أغاني عبدالوهاب التي تحملها هذه الأسطوانة، والتي يجمع المشتغلون في هذا المجال على انها شكّلت ولا تزال منعطفات حادة ولافتة ونقلات نوعية حملت الغناء العربي من التخبط في المطولات والاجترارات التي لا طائل منها سوى الترنح وإفناء الزمن. وتميّزت أسطوانة «سهرت» ايضاً من خلال عازفي القانون والكمان اللذين جذبا الانتباه.