لو طلب منّي أن أقترح عنواناً لرواية «أشواك وياسمين» لحسّونة المصباحي (دار «آفاق» التونسيّة) لاقترحت أن يكون "كتاب المحن». والحقّ أن «كتاب المحن» لمؤلفه أبو يعرب التميمي المتوفى عام 333 هجرية كان ماثلاً في ذهني وأنا أطوي رواية حسّونة المصباحي. وهي رواية تتهاطل فيها الوقائع التاريخيّة واقعة تلو الأخرى لتستحضر في شريط مثير أحداثاً كثيرة عاشتها تونس في حاضرها وماضيها، وجميعها تقريباً موسومة بالمحن والمآسي التي عرفتها هذه البلاد على مرّ تاريخها الطويل. وفي بداية روايته يكتب حسّونة المصباحي قائلاً: «في الأشهر الأولى من ذلك العام، عشت عزلة شبة تامة في بيتي في أطراف الحمّامات، ولا صلة لي بالعالم الخارجي الاّ عبر الهاتف أو الجرائد. أمّا التلفزيون فلم أكن أشغّله الاّ لمشاهدة أفلام أعشقها مثل أفلام سرجيو ليوني، ومارتين سكورسيزي، ونايل جوردان، ويوسف شاهين...أفعل ذلك اختياراً منّي إذ إنني قررت منذ زمن بعيد، وتحديداً منذ مطلع التسعينات أن أسدّ أذني عن كل الأحداث التي تفرض نفسها على الناس من خلال الصورة فيجدون أنفسهم مجبرين على الانفصال عن عالمهم الخاص ليصبحوا عبيداً لها». فضاءات مختلفة ومنذ البداية ينبّهنا حسّونة المصباحي الى أنه اختار أن تكون أحداث روايته متوزعة على فضاءات مختلفة، وعلى أزمنة مختلفة هي أيضاً. الرابط الوحيد بينها جميعاً هي تونس. كما ينبّهنا الى أن روايته ستكون خليطاً من الأنماط التي قد تبدو متنافرة، وغير متجانسة، غير أنه تعمّد ذلك لأنه من انصار الكاتب الألماني وينفريد ماكسيميليان زيبالد (توفي في حادث سيّارة عام 2001) الذي كتب يقول ردّاً على الذين أنتقدوا طريقته في كتابة مجمل أعماله الروائية: «علينا أن نتجاوز الحدود التي يرسمها لنا نمط أدبيّ معيّن، فذلك هو المبدأ الحقيقي للأدب». وبالفعل انتهج حسّونة المصباحي هذا المنهج راوياً أحداث روايته انطلاقاً من فضاءات أسفاره المتعددة. فمرة هو في الحامامات، مقرّ اقامته في تونس، ومرة في القاهرة التي زارها قبل بضعة أسابيع من اشتعال ثورات «الربيع العربي». وهو في الدار البيضاء حيث يبرز أمامه فجأة محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في مسقط رأسه سيدي بوزيد. وهو في براغ حيث يستعرض بطريقة بديعة كوابيس العرب وفواجعهم من خلال روايات وقصص كافكا. وهو في مدينة لوس أنجلس الأميركية ليعود بالذاكرة الى القيرروان، أول مدينة بناها المسلمون في شمال افريقيا لكي يقدم لنا صورة مفصّلة عن الفتن التي شهدتها تونس في القرنين العاشر والحادي عشر، والتي قد تكون سبباً من أسباب اشتعال مثل هذه الفتن من جديد بعد انهيار نظام بن علي. وفي كل مرة يتوقف الكاتب الذي هو حسّونة المصباحي لنعيش معه استراحة قصيرة تحيلنا على فلاسفة أو شعراء أو روائيين تأثر بهم من امثال ديدرو، وبورخيس، وهاينريش بل، وأبولينير وآخرين كثيرين. وكانت أحداث الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) 2011 التي عصفت بنظام بن علي الذي حكم تونس على مدى 23 عاماً، منطلقاً للكاتب لتقليب صفحات التاريخ، والبحث في المظان، وفي البطون لاستعراض ما لا تزال الذاكرة التونسية محتفظة به أو هي نسته أو تناسته أو ظل مخفياً تحت الرماد الى أن اشتعلت تلك الأحداث التي كانت مفتتحاً لما أصبح يسمّى «الربيع العربي». وبأسلوبه الروائي، معتمداً على من سماه «المؤرخ العجوز» يعود بنا الى «ثورة» العربان» التي اندلعت عام 1864 بقيادة علي بن عذاهم، والتي كانت من جملة أسبابها فساد نظام حكم البايات الحسينيين، والضرائب المجحفة المسلطة على عامة الشعب. وكان الفضاء الجغرافي لتلك الثورة هو الفضاء نفسه الذي كان مسرحاً لتلك الأحداث التي أدت الى انهيار نظام بن علي. وعلى لسان المؤرخ الروماني يروي لنا حسّونة المصباحي النهاية المأسوية للقائد البربري يوغرطة الذي ثار على روما. وتشبه هذه النهاية ماعرفه علي بن عذاهم قائد «ثورة العربان» بعد أن تم القبض عليه وعلى مناصريه. وهكذا، مثل بندول الساعة، يروح الكاتب ويجيء بين أحداث الحاضر والماضي مسكوناً برغبة جامحة في استكناه أسبابها الخفية بالخصوص، وطامحاً الى أن يتجاوز نمطية المؤرح وجفاف أسلوبه، وموضوعيته الباردة. وبين هذا الحدث أو ذاك، يتوقف الكاتب ليبوح لنا ببعض من خواطره الخاصة المسكونة برعب الوجود، وقلق الكائن. ففي بيت «هاينريش بل» الذي أقام فيه خلال الأشهر الأخيرة من عام 2011، هو يكتب قائلاً: «كم تبهجني الغابات التي تحيط ب «بيت هاينريش بل» وقد زيّنها الخريف بألوانه البديعة. أما خريف العمر فيفزعني. الشجرة تستعيد أوراقها التي فقدتها لتخضر من جديد. وفي فقرة أخرى يتذكر حبيبته الصغيرة التي عشقها في خريف العمر، فيكتب: «صغيرتي، فاتنتي والعمر يدفع بي غصباً عنّي الى البياض المرعب ...لن تأتي لتشاركني الاحتفال بالسنة الجديدة». وفي فقرة أخرى يعبر عن قلقه الوجودي قائلاً: «أنا أيضاً أرغب في أن اكون شخصاً آخر. لكن من أكون؟ جحش «ابوليوس» مثلاً؟ لا ...الأفضل أن أكون كما كنت أتمنى أن أكون وأنا طفل...أن أكون كائناً لامرئياً». وفي فقرة أخرى، نقرأ: «صمتي يستمع الى صمتي المهيب في الليل كما في النهار. أعتقد أن الذي لا يجرب الوحدة في عمقها واتساعها يظل جاهلاً لجزء كبير من ذاته». وقد تكون استراحة الكاتب فرصة لاستعراض أغان قديمة وحديثة وأفلام وكتب يعشقها حسّونة المصباحي وإليها يعود دائماً وأبداً لملء الخزان الذي أوشكت مياهه على النضوب. وهو يفعل كل هذا غير عابئ بمقتضيات الشكل والمضمون، ولا بتقنيات السرد المألوفة في جل الروايات التونسية والعربيّة. قصص وشخصيات تحفل رواية «أشواك وياسمين» بقصص كثيرة متسلسلة على رغم تنافرها. وتتعدد الشخصيات بحيث لا يكون هناك مكان لشخصية رئيسة كما هي الحال في الروايات الكلاسيكية. ويروي لنا المصباحي بطريقته السردية المنسابة بدعة وهدوء، سيرة بعض من كبار الفاسدين في التاريخ التونسي مثل محمود بن عياد الذي فرّ من البلاد في منتصف القرن التاسع عشر بعد أن نهب خزينة المملكة مقابل الحصول على الجنسية الفرنسية، ومصطفى بن اسماعيل، محظيّ الصادق باي الذي استغلته فرنسا لكي تحتل تونس في الثاني عشر من أيار (مايو)1881. ولكي ينبهنا الى أن الظلم والاستبداد قديمان، ومتأصلان في البلاد التونسية، يروي لنا حسّونة المصباحي وقائع مرعبة من سيرة الطاغية مراد الثالث (القرن السادس عشر) الذي كان يردّد يومياً أمام حاشيته: «سيفي عطشان!». ويومياً كان يقتل الأبرياء لكي يرضي نزواته الإجرامية. فلم يسلم منه لا المقربون ولا من لم تكن لهم صلة به. بل إنه كان يتفنن في تعذيب ضحاياه قبل قتلهم بسيفه، وفي النهاية كان يشوي لحم بعضهم ويأكل منه بلذة واستمتاع آمراً حاشيته بمشاركته في ذلك!. ويمكن أن نقول إن حسّونة المصباحي نجح في أن يقنع القارئ مرّة أخرى بأنه الروائي الذي يستطيع أن يلعب بمهارة بين الواقع والمتخيل، وأن يجعل من التاريخ حكاية عجيبة شبيهة بالأسطورة المثيرة، وأن يمزج الماضي بالحاضر، بحيث نعجز في النهاية عن التفريق بينهما. كما نجح في أن يقنع القارئ أيضاً بأنه قادر على أن يأتي بالجديد في مجال السرد، وابتكار الصورة غير المألوفة، وفي أن تكون اللغة منسجمة مع كل فصل من فصول روايته، ومع أسلوب كل راو من روايات الحكايات الوفيرة التي تشدنا من البداية الى النهاية.