يتردد شتيفان هنيهة قبل أن يحتل موقعه في أحد شوارع العاصمة النمسوية فيينا. يخرج ما في جعبته ويتربص بالمارة، عارضاً عليهم شراء الصحيفة التي يحملها. يتجاهله كثر ظناً منهم أنه متسول وطالب مالٍ ليس إلا، فيما ينظر إليه بعضهم بعين من الاحترام والتقدير ويقبل على شراء نسخة من الصحيفة التي يبتاعها لدعمه من ناحية، وللاطلاع على محتواها من ناحية أخرى. شتيفان شاب يمتهن الصحافة والتشرّد في آن. يعيش بلا مأوى ويقتات من الدخل البسيط الذي يعود عليه من العمل كمحرر وموزّع لصحيفة «أوغستين». وتعتبر «أوغستين» صحيفة الشارع التي تجسّ نبضه وتعكس واقع سكانه، متابعةً أخبارهم وراوية مغامراتهم وهمومهم للآخرين. كما تمثل الصحيفة منبراً حراً لفئة مهمّشة، جلّها من المشردين «المخضرمين» والعاطلين عن العمل، بالإضافة إلى اللاجئين السياسيين وأولئك الذين يعانون أوضاعاً وظروفاً مادية صعبة. تأسست «أوغستين» النمسوية عام 1995، أسوة بتجارب شبيهة ظهرت في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا. ويؤكد القائمون عليها أنها تساهم في مساعدة الفئة المهمّشة مادياً ومعنوياً وتحررهم من التسول والإحساس الدائم بالحاجة والعوز للآخرين. وتعرّف الجريدة نفسها بأنها صحيفة المدينة، تتناول قضاياها بطريقة مختلفة، من دون التركيز على أخبار عالم التشرد فقط، إذ لا تترك مجالاً من دون أن تتطرق إليه وتفنده. كما تتضمن «أوغستين» ملحقاً خاصاً يتحدث عما شهدته وستشهده المدينة من أحداث وفعاليات وندوات ثقافية وفكرية وحفلات. ولا ينسى المحررون التعليق عليها وتقديم النصائح إلى قرائهم لزيارة الآتي منها، خصوصاً المجانية. ويرى المتخصصون في مجال الإعلام أن «أوغستين» هي بمثابة ملتقى لنقاد التفاوت الطبقي بمختلف مشاربهم وطريقة نقدهم. وقوبل إصدار الصحيفة بترحاب في أوساط الإعلاميين وأصحاب القلم لاستحسان فكرة مشروعها القائم على منح تلك الفئة فرصة للخروج من واقعهم من خلال الكتابة. ويصف بعض المتخصصين كالبروفيسور فريتس هاوسييل من كلية الإعلام في فيينا، «أوغستين» بأنها صحيفة تجسد صحوة للضمير الاجتماعي في فيينا. أما إنجاز موضوعات الصحيفة، فيقوم عليه صحافيون ومصورون متمرّسون يشرفون على تدريب ذوي القدرات والمهتمين من المتسولين وتأهيلهم للعمل معهم وتدقيق مقالاتهم. ويتفق المحررون والمصورون والمتخصصون الاجتماعيون الذين يشكلون هيئة تحرير «أوغستين» مع الناشر على رفض دعم الدولة، مع الإصرار على تغطية تكاليف الطباعة من خلال بيع الصحف والتبرعات التي يقدمها القطاع الخاص، لأن التمويل الذاتي الكامل يضمن للمحررين حرية التعبير بعيداً من شروط هذه الجهة السياسية أو تلك. وشعارها في هذا الشأن: صحيفة «أوغستين» لا تسمع لأي كان (أي للسياسيين طبعاً). تصدر «أوغستين» مرة كل 14 يوماً. ويبيع حوالى 450 موزعاً بين 38 و45 ألف نسخة منها. وتتوجه الصحيفة إلى كل الفئات الاجتماعية، التي جار الزمان عليها لسبب أو لآخر، ولمن جاروا على أنفسهم بالتعاطي المفرط للكحول والمخدرات. إذ يجد فيها كل من ضاقت الأرض عليه بما رحبت ملاذاً، ويستطيع الخوض في مغامرة الربح والكسب المشروع عبر بيعها في الشوارع. يحصل البائع على بطاقة تؤكد انتسابه إلى الصحيفة وتبقى له حرية اختيار مكان البيع. وعلى رغم إطار الحرية العريض الذي يعمل ضمنه محررو «أوغستين»، فإن عليهم الالتزام بشروط معينة أهمها: أن لا تتعدى مداخيلهم من بيع الصحيفة الحد المسموح به من جانب الدولة للعاطلين عن العمل أو مستحقي المساعدات الاجتماعية. كما يمنع على الموزعين من المشردين منعاً باتاً تعاطي الكحول أثناء مزاولتهم العمل. يذكر ان الصحيفة تناولت في أحد أعدادها الأخيرة الأزمة المالية العالمية الراهنة، معنونة صفحتها الأولى بالخط العريض: «المشردون أكثر الناس تحصناً من تداعيات الأزمة الاقتصادية». وسلط المقال الضوء على الأزمة المالية العالمية، منتقداً بسخرية بالغة جشع سماسرة المال ومدراء المصارف، داعياً المفلسين منهم إلى العمل لدى صحيفة «أوغستين» كموزعين في شوارع... لا تزال شاغرة.