إشراك المغتربين في الانتخابات اللبنانية مطلب قديم ظل يتردد في الأوساط السياسية منذ فجر الاستقلال. جاء في البيان الوزاري لحكومة عام 1943 الاستقلالية والميثاقية ان لبنان لن ينسى للمغتربين تأييدهم لبلدهم يوم طلب منهم «نصرة الوطن والدفاع عن حقوقه». كما جاء في البيان تعهد من لبنان المستقل ب «العمل على توطيد الصلة بين الوطن وأهل الاغتراب بكل وسيلة ممكنة». لم يكن هذا الموقف مكرمة يغدقها لبنان المقيم على لبنان المهاجر، فخارج لبنان يوجد مئات الألوف من اللبنانيين واللبنانيات الذين يحملون جنسيات بلدهم. ولهؤلاء حق لا يمارى فيه في المساهمة في الحياة العامة في لبنان. على العكس من ذلك، فانه من واجب الدولة اللبنانية، ومن واجب جميع المعنيين بمستقبل لبنان وبمصير نظامه الديموقراطي، تيسير مشاركة المغتربين في الانتخابات النيابية والبلدية. هذا ما تفعله عادة الدول التي تصدر المهاجرين الى بلاد الاغتراب. بين الدول التي تنطبق عليها هذه الصفة، هناك دول مثل إيطاليا والبرتغال وفرنسا وكرواتيا وايرلندا الخ...، لم تكتف بترتيب مشاركة المغتربين في الانتخابات فحسب، وانما خصصت مقاعد نيابية لهؤلاء المهاجرين في البرلمانات في الأوطان الأم. هناك الى جانب اللبنانيين الذين يحملون جنسيات بلادهم مئات الألوف من المغتربين والمغتربات المتحدرين من أصول لبنانية. أهالي هؤلاء هاجروا الى الخارج وعلى دفعات وعلى نطاق واسع ابتداء من القرن التاسع عشر، ولم يلبثوا ان تقطعت صلاتهم بالوطن الأم. بعض هؤلاء اندمج اندماجاً كاملاً في بلدان المهجر، ولم يعد لبنان بالنسبة إليه إلا ذكريات وأقاصيص متفرقة من تاريخ مضى وانقضى. البعض الآخر لا يمانع في تجديد الصلة بالبلد الأم. الموقف من هؤلاء المغتربين، وبخاصة هذه الشريحة الأخيرة منهم، هو أمر يثير نقاشاً في الأوساط اليوم. فأية مقاربة وأية منطلقات يعتمدها الذين ينخرطون في هذا النقاش؟ اتخذ هذا النقاش حالياً - وللأسف - منحى طائفياً وفئوياً غير مقبول. تجديد المطالبة بمناقشة «مشروع استعادة الجنسية اللبنانية للمتحدرين من أصل لبناني» والتشديد على «ضرورة أخذ حقوق اللبنانيين المقيمين خارج لبنان في الاعتبار» جاءا في سياق طائفي محض. والرد على هذه المطالبة الذي اعتبر ان وراء تحريك الموضوع «نوازع طائفية غير خافية على أحد»، جاء يعكس في حد ذاته مثل هذه النوازع التي ينسبها الى الآخرين. فيما انحشر السجال حول هذا الموضوع في حلقة طائفية مغلقة، وفيما قدمه البعض في مجال المقايضة مع تخفيض سن الاقتراع من 21 الى 18 سنة، فانه انحدر الى نهج اقصائي بحت يقوم على مجابهة مصطفاة بين عالمي الشباب والاغتراب اللبنانيين. هذا النهج الاقصائي هو علة رئيسية في الجسم اللبناني. انه يجانب المقاربة المطلوبة والوطنية السليمة لمسألة المغتربين اللبنانيين في أكثر من نقطة وفي مقدمها النقاط والاغفالات التالية: أولاً: لقد امتشق فريق أو أفرقاء السجال سيف الدفاع عن المغتربين أو ضدهم في غياب هؤلاء المغتربين، بينما كان من المفروض أن يطلب إليهم أو الى من يمثلهم من المنظمات أن يعبروا عن رأي الشتات اللبناني في هذه المسألة. ثانياً: الخلط بين اللبنانيين واللبنانيات الذين يحملون الجنسية والذين يتمتعون بكافة الحقوق التي يملكها اللبناني المقيم، وبين المغتربين المتحدرين من أصل لبناني والذين لا يملكون هذه الجنسية. وإذ يضع البعض الفريقين في مركب واحد، فانه يسوغ، بصورة غير مباشرة، حرمان لبنانيين ولبنانيات من حقوق المواطنة، وهو ما يشكل انتهاكاً للدستور الذي يؤكد المساواة بين اللبنانيين. ثالثاً: إن الجدل حول مشاركة الشتات اللبناني في الحياة العامة في لبنان لم يستند الى حقائق وأرقام تساعد على مناقشة هذا الموضوع بأسلوب عقلاني وهادف بل الى فرضيات غير محققة منها ما يأتي: * إن اللبنانيين خارج لبنان هم أكثر عدداً من اللبنانيين داخله. * إن غالبية المغتربين اللبنانيين ينتمون الى لون ديني أو طائفي واحد. * إن غالبية هؤلاء تنتمي الى اتجاه سياسي أو فكري واحد. في ظل هذه الفرضيات، يبدي البعض اعتراضه على مشروع قانون استرداد الجنسية اللبنانية، ويظهر تحفظاً على مشاركة المغتربين اللبنانيين في الانتخابات النيابية. الحجة المعلنة هي التخوف من طغيان لبنان المغترب على لبنان المقيم، أما الدافع الحقيقي لهذا الموقف فهو التحسب من طغيان مفترض لفئة دينية لبنانية على فئة أخرى. ولكن مهما تعددت الأسباب، وسواء كانت معلنة أم مضمرة، فانها تبقى في حيز التكهنات والفرضيات غير المؤكدة. فأين هي الأرقام التي تثبت أن المغتربين اللبنانيين هم أضعاف المقيمين؟ ومن أين للمعترضين على مشروع استرداد الجنسية اللبنانية التأكد من أن ملايين المغتربين سيزحفون للمشاركة في الاقتراع بحيث يقررون مستقبل لبنان ومصير اقتصاده نيابة عن لبنان المقيم؟! حتى لو صحت هذه المخاوف، فكيف لنا أن نرحب بالأموال التي يرسلها المغتربون الى المقيمين، والتي ساعدت لبنان على الصمود في وجه الأزمات والكوارث الاقتصادية والسياسية التي نزلت به، ثم نضيق بهم إذا ساهموا عبر الاقتراع في تقرير مصيره الاقتصادي؟ كل تلك أسئلة تؤشر الى ابتعاد المتناظرين في قضية الاغتراب عن جادة الصواب والمنطق والمصلحة الوطنية. المقاربة السليمة لقضية الاغتراب اللبناني جديرة بأن تنطلق من التمسك بالديموقراطية اللبنانية ومن الحرص على المصالح الوطنية والعربية. هذا التمسك يقضي بالتماس كل السبل المشروعة من أجل اشراك المغتربين في الانتخابات في لبنان. وهذا التمسك يقضي بأن يتاح للبنانيين واللبنانيات الاقتراع حيث هم في بلاد المهجر، فلا تكون العقبة المادية أو اللوجستية سبباً لحرمانهم من حقوقهم الديموقراطية، ولا تكون المشاركة في الانتخابات حكراً على الأغنياء أو أنصارهم فحسب. المقاربة الديموقراطية السليمة لمسألة الاغتراب اللبناني ولحق المغتربين في المشاركة في الحياة العامة في لبنان تبدأ من الاقتناع بانه ما من «أكثرية استراتيجية» من النوع الموهوم والمفترض في الشتات اللبناني. ففي عالم الاغتراب تنوع في الآراء والاجتهادات والانتماءات الفكرية. وفي الشتات اللبناني، نجد الكثيرين من اللبنانيين أو من المتحدرين من أصل لبناني، ممن كانوا يرزحون في لبنان تحت وطأة التعصب الديني والطائفي، حتى إذا انتقلوا الى الديموقراطيات المتقدمة تحللوا من أسر التعصب السائد في لبنان، وتغيرت نظرتهم الى العديد من القضايا. فمن كان ينظر باستخفاف الى حرص اللبنانيين على الاستقلال والسيادة بات أكثر تفهماً وتعاطفاً مع هذا الحرص. ومن كان ينظر بتشكيك الى الحرص على عروبة لبنان وعلى صلته بالمنطقة العربية أصبح في بعض الأحيان سباقاً الى التأكيد على هذه الصلة. المقاربة الوطنية لمسألة الاغتراب اللبناني تقضي بإشراك المغتربين في الحياة العامة في لبنان، وبالعمل معهم على خلق أفضل العلاقات مع دول المهجر. أليس للعديد من هؤلاء الفضل في «الذكر الرفيع الذي أقاموه لبلادهم حيث حلوا وأقاموا» كما جاء في خطاب الاستقلال المشار إليه أعلاه؟ ما فعله هؤلاء خلال الأربعينات جدير بالتكرار اليوم لأن لبنان في حاجة الى المزيد من الأصدقاء والداعمين. وما فعله هؤلاء بالأمس جدير أن يتكرر اليوم على نطاق أوسع بحيث يلعب الشتات اللبناني دوراً فعالاً في بناء مؤسسات للاغتراب اللبناني ومؤسسات للاغتراب العربي. إن المهاجرين العرب في الخارج يواجهون صعوبات كثيرة ناجمة، بالدرجة الأولى، عن الأرابوفوبيا المنتشرة في أرجاء المجتمع الدولي، وعن الصراع المصيري الذي يخوضه العرب مع الحركة الصهيونية. المغترب اللبناني يستطيع المساهمة في إدارة هذا الصراع على نحو يخدم مصلحة اللبنانيين والعرب، وبإمكانه أن يشكل جسراً للتفاهم والتعاون بين بلدان الاغتراب والبلدان العربية. تحفيزاً لاضطلاع الشتات اللبناني بمثل هذا الدور، فلنبدأ ببناء الجسور بين المقيمين والمغتربين ولنبتعد عن الألعاب الصفرية التي تصور الكسب الذي يحققه أي منهم خسارة تلحق بالآخر. * كاتب لبناني