القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    النفط يقفز 3%    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    قوة نمو الوظائف الأمريكية تزيد الشكوك إزاء خفض الفائدة مجددا    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    البيت الأبيض: بايدن سيوجّه خطابا وداعيا إلى الأمة الأربعاء    الإعاقة.. في عيون الوطن    ابعد عن الشر وغني له    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    ضبط يمني في مكة لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 2.910 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في حلب    لاعب الشباب يغيب عن مواجهة الأهلي لأسباب عائلية    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    عبرت عن صدمتها.. حرائق كاليفورنيا تحطم قلب باريس هيلتون    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا    جوزيف عون يرسم خارطة سياسية جديدة للبنان    مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين في "المشغل الاقتصادي السعودي المعتمد"    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    ماذا بعد دورة الخليج؟    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليبيا:رغبة عارمة في النجاة من زوابع الرمال ... وبأي ثمن
نشر في الحياة يوم 04 - 09 - 2015

في كتاب «التواريخ» يخصص هيرودوت، المسمّى أبو التاريخ، جزءاً يتناول ليبيا يطلقون عليه «الكتاب الرابع»، يورد فيه قصة ذات طابع رمزي فانتازي تقول أن الرياح الجنوبية العاتية الآتية من عمق الصحراء الليبية، جفّفت جميع الآبار، فتشاور أهل البلاد، ثم زحفوا كتلة واحدة، يشنّون الحرب على الرياح الجنوبية، في منابتها، في أغوار الصحراء، وكانت النتيجة أن دفنتهم تلك الرياح تحت رمالها.
الصراع مع الصحراء ورياحها طبع حياة الليبيين منذ فجر التاريخ، وكان هذا الصراع عاملاً حاسماً في صوغ حياتهم وتاريخهم وتراثهم وانعكس على خصائص شخصيتهم، ولم يكن غريباً أن يطلق الطاغية القذافي الذي حكم ليبيا أربعة عقود ونيفاً، على نفسه «رسول الصحراء»، وأن يضع شعاراً لحكمه يقول «الخيمة تنتصر على القصر»، وهو شعار يعبر عن انتصار القيم البدوية البدائية على قيم المدنية والحضارة والعمران التي تميزت بها مدن الساحل الليبي، والتي كانت تقود المجتمع، وتستأثر بتقديم الطلائع المستنيرة، صاحبة المساهمات العلمية والأدبية التي عرفتها ليبيا عبر التاريخ، وتولّت في المراحل الأخيرة إنجاز دولة الاستقلال، وهي الدولة التي استطاعت خلال أقل من عقدين من السنين سبقت انقلاب أيلول (سبتمبر) 1996، أن تحيل صندوق الرمال المسمّى ليبيا إلى بلد ناهض له دستور ومؤسسات أمنية وعسكرية وجهاز إداري وبنية تحتية. ومع الميلاد المتعسر للاستقلال، وفي ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد، تم اعتبار ليبيا عند استقلالها في 24 كانون الأول (ديسمبر) 1951 أفقر دولة في العالم، ولم تستطع وضع موازنة إلا بمساعدات خارجية بلغت خمسة ملايين دولار، عززتها في ما بعد برهن جزء من استقلالها إلى أميركا وبريطانيا عبر اتفاق إنشاء قاعدة عسكرية جوية لكل منهما، مقابل مبلغ وصل مجموعه إلى عشرة ملايين دولار سنوياً، ولم يكن هناك كوادر ولا عناصر مؤهلة، ولم يكن هناك ليبي واحد يحمل شهادة جامعية في الطب أو الهندسة أو المحاماة، وكانت نسبة الأمية 95 في المئة ومجموع خريجي الجامعات 15 شخصاً، من مجموع عدد السكان، وقد بلغوا آنذاك مليون نسمة، تتفشى فيهم أمراض التراخوما وفقر الدم.
تبدّل الأحوال
وكانت دورة كبيرة تلك التي دارتها الأفلاك، وتبدّلت خلالها حظوظ أهل ليبيا، لتنتقل بلادهم من أفقر دولة في العالم، إلى أغنى دولة في قارة أفريقيا، بفضل اكتشاف النفط، والشروع في تصديره في مطلع الستينات. إلا أن دورة أفلاك كبيرة، دارت هذه المرة دورة أكثر عنفاً وخطورة من الدورة الأولى، وفي اتجاه معاكس لها، أطاحت الأحلام الوردية، ووعود المستقبل الحافل بالحياة الرغيدة اللذيذة، بقيام الحركة الانقلابية في الأول من أيلول 1969 التي جلبت إلى سدة السلطة حاكماً يحمل كل تشوهات القرون منذ عصر هيرودوت ومحاربي الريح، إلى إرث القهر والرعب الاستعماري الذي عرفته ليبيا من طريق الفرسان الصليبيين، إلى جنرالات الفاشية الإيطالية، مروراً بخوازيق الحكام الأتراك، وقد تمثل «مجنون ليبيا» كل مواريث القمع والقهر تلك، ليعيد إنتاجها وتصنيعها، ويباشر إرغام الشعب الليبي على أن يتجرّعها صباح مساء، وعلى مدى الأربعين عاماً التالية، ولم يكن مجيئه وتمكينه من حكم ليبيا كل هذه العقود، معزولاً عن أجندات أجنبية، وقوى تحكم من ورائه، وتعمل على توظيفه لتنفيذ أغراضها، (كما صارحه بذلك خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبدالله، في المواجهة الشهيرة في قمة شرم الشيخ) وكانت النقمة لدى الشعب الليبي قد بلغت أوجها عندما انطلقت شرارات ما سميناها ثورات الربيع العربي (الذي شاخ سريعاً، وذبلت زهوره وتساقطت أوراقه وصار خريفاً) وتحولت الشرارات إلى حريق في هياكل النظام، حتى تركه رماداً وأنقاضاً، وكان كثرٌ من خارج ليبيا يتساءلون كيف استطاع الشعب الليبي إنجاز ثورته، وكان الردّ الذي أبادر شخصياً إلى قوله، هو أن الغريب ليس قيام الثورة، ولكن كيف سكت الشعب الليبي وصبر على الأذى والقمع والتنكيل والتفقير والتجويع كل هذه السنين؟
ما حدث بعد نجاح الثورة وإزاحة الطاغية ونظامه، هو ما يمكن أن يشكل مفارقة لا تقل في عجائبيتها وغرابتها، عن مفارقة الزمن الغابر التي أوردها هيرودوت في كتابه الرابع، والتي أدت إلى أن يدفن فيها الليبيون أنفسهم تحت رمال الصحراء.
كان الليبيون يعتقدون، ويشاركهم في هذا الاعتقاد قطاع كبير من الرأي العام العربي والدولي، أن الطاغية القذافي، كان هو الستار الحديد الذي يحول بين الشعب الليبي والانخراط في مسار الدولة الحديثة التي يتمتع فيها المواطن بحقوقه في الحياة الكريمة، والمستوى المعيشي الذي تؤهله له موارده الكثيرة، نفطاً وغازاً، وثروات معدنية وزراعية وبحرية، وبقائه محروماً من خيرات بلاده تحت الحظر الدولي الذي جعلها دولة من مطاريد الجبل أو بالاصطلاح العالمي pariah state، كما أرادتها حماقة القذافي وشخصيته المريضة، وبزواله سيغدو الطريق سالكاً آمناً، لإنجاز مستوى الحياة الذي يطمح المواطن الليبي إلى أن يعيشه، وبناء دولة الدستور والمؤسسات، ورجوعها إلى سياق الدولة المدنية الحديثة التي تربطها علاقات الود والصداقة والشراكة الإنسانية والحضارية مع بقية دول العالم.
أكثر بشاعة
ولم يكن متوقعاً إطلاقاً، أن يحدث العكس، وأن يعني سقوط نظام الطغيان، الدخول في مرحلة من الفوضى والإجرام والاحتراب، أكثر بشاعة وقبحاً ورعباً وقمعاً وانتهاكاً للحقوق، من النظام المنهار، وأكثر إهداراً لقيم الثورة التي أعلنتها في مواثيقها وإعلانها الدستوري الموقت.
والسؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحال، هو لماذا وكيف وما هو الخطأ الذي انحرف بمسيرة الثورة إلى هذه المآلات الكارثية؟
والإجابة لا بد من أن تبدأ من حقيقة أن أهل المطامع، في المحيط الدولي وأرباب الرأسمالية المتوحشة، وعناصر أو دول في المحيط الإقليمي، تتطلع إلى لعب دور لتعزيز مركزها أو خدمة سياستها، يرون في ليبيا ال «دورادو»، مدينة الذهب التي يتسابقون للاستحواذ على كنوزها، وكما كان انقلاب القذافي جزءاً من لعبة المطامع والركض للفوز بالذهب، فإن اللعبة نفسها، تبدأ بعد مصرعه، بأدوات جديدة وأقنعة جديدة، ولاعبين قدماء ومستحدثين.
وقد سال حبر كثير، في الصحف، وسرى، كلاماً عبر موجات الضوء والهواء، تبثه الإذاعات المرئية والمسموعة، يرجع تخليق التطرف الإسلامي وجماعاته من «دواعش» و «قاعدة» و «بوكو حرام» و«أنصار الشريعة» و«أنصار بيت المقدس» وغيرهم، إلى مخططات استخبارية دولية، غربية وشرقية، وربما مشاركات ماسونية وموسادية، وأطراف خفية مجهولة، وأجندات سود، تعمل في الخفاء، فلن يكون غريباً تبعاً لذلك أن يكون كائن التطرُّف الشائه القبيح المتوحش، موظفاً توظيفاً قوياً في الحالة الليبية، وكان حضور هذا الكائن، رافعاً براثنه، مكشراً عن أنيابه للافتراس، واضحاً منذ بدايات الثورة، وأعلن إعلاناً صاخباً ومرعباً عن هذا الحضور، عندما تربّص بقائد الثوار، اللواء عبدالفتاح يونس، وفتك به على الطريقة الداعشية، قتلاً وتمثيلاً بجسده وحرقاً له، وقتلاً لمرافقيه وحراسه بالطريقة نفسها، ليقول أنا هنا، وليضع منذ تلك اللحظة بصمته الكريهة على مسار الثورة، ويمنع قيام المؤسسة العسكرية، وقيام المؤسسة الأمنية، لأن اللواء عبدالفتاح يونس جاء إلى الثورة من خلفية أنه كان وزيراً للداخلية، يُقحم المؤسسة الأمنية في الفعل الثوري ضد النظام، ومن خلفية أنه قائد لمعسكر الصاعقة التابع للجيش، ليجره هو الآخر إلى سياق الثورة، فكان لا بد، لقطع الفرصة على بناء دولة المؤسسات، من الفتك به، ثم أودى مسلسل الاغتيالات التي قام بها المتطرفون، بحياة 600 كادر من كوادر الثورة، أمنيين وعسكريين وقانونيين، وتحصّلوا، مغالبة وقسراً، وليس من طريق التصويت، بعدد من المراكز في السلطات الانتقالية التشريعية والتنفيذية، وشرعوا في تمكين عناصرهم في مؤسسات المال وصنع القرار للاستيلاء على مقار الجيش، وتمويل مشروعهم، مشروع التطرف والإرهاب، ولم يكن ينقصهم المدد الذي يأتي من الخارج عتاداً ومالاً ورجالاً، إلى أن سيطروا على المشهد السياسي الليبي، في غالبية المناطق، وبينها العاصمة نفسها، معطين أنفسهم، في هذه الحال، وجهاً يدّعي الاعتدال، ويناوئ التوحُّش «الداعشي»، قولاً لا فعلاً، وصار يزيح السلطات الشرعية القائمة على التفويض الشعبي، عبر صندوق الاقتراع، من مكان المركز، لتحتل مكانها في الزوايا والهوامش.
المفارقة التي لا أدري كيف يستطيع أهل التنظير السياسي في الغرب، وصانعي سياساته، شرحاً وتفسيراً، هي كيف يستقيم ما يفعلونه من دفع للإسلام السياسي في العالم العربي، ومناصرته على حساب الدولة المدنية، مع ما يتباهون به، بأن تحقيق النهضة وبناء الدولة الحديثة لم يبدأ إلا عندما تحقق فصل الدين عن الدولة، وأخذ مكانه في مواثيقهم ودساتيرهم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، حتى استقرت مناهج الحياة والمجتمع والسياسة استقراراً نهائياً على عدم الخلط بين الدين والسياسة وفق القاعدة التي تقول الدين لله والوطن للجميع.
رافقت هيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها مسيرة ثورة 17 فبراير، منذ بدء تفجُّرها، وكانت قرارات الدعم والمناصرة للثورة السلمية وحماية المدنيين التي أصدرها مجلس الأمن، فاعلة في إنجاح الثورة، وهي التي حسمت الصراع لمصلحة قوى الثورة ضد قوات الطاغية وكتائبه، وكان هناك انتقاد يقول أنها أوقفت تدخلها المسلح قبل إنهاء المهمة، تاركة أكثر من عشرين مليون قطعة سلاح في البلاد، بأيدي قوى خارج الإطار الشرعي للدولة.
مع الأمم المتحدة
تواصلت هذه العلاقة بين الحراك الجديد وبين الهيئة الأممية من خلال بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا التي يرأسها ممثل خاص للأمين العام، هو الآن برناردينو ليون الذي تسلم هذه المهمة منذ عام مضى، في ظروف شديدة الصعوبة، وصل فيها الصراع بين الأطراف إلى مرحلة الاشتباك المسلح الذي أخرج مطار طرابلس الدولي من الخدمة، وأحرق خزانات النفط، وأدى إلى تهجير مدن كاملة من أهلها في منطقة طرابلس وما حولها، وهو صراع بين شركاء في الثورة، بالتوازي مع صراع يدور في الشرق بين جماعات التطرف من «شورى بنغازي» و «أنصار الشريعة» و «داعش» و «القاعدة» من جهة والجيش الليبي الذي بادر إلى تنظيم صفوفه والدخول في المواجهة مع هذه الأطراف.
وعندما وصل السيد ليون ليباشر عمله في ليبيا، كانت الحكومة الشرعية قد أجبرت على مغادرة العاصمة، وانعقد البرلمان مضطراً في أقصى مدينة في شرق البلاد، هي طبرق، وسيطرت على العاصمة جماعات تنتمي إلى تحالف الإسلام السياسي، لتنشئ هي الأخرى حكومة بديلة غير الحكومة الموقتة المنبثقة عن البرلمان، وتقوم بإحياء مجلس نيابي موقت انتهت صلاحيته ليكون سلطة تشريعية موازية للبرلمان المعترف به دولياً، تكريساً للتقسيم القائم على المغالبة وسلطة السلاح، تعويضاً للخسارة التي منيت بها عناصر الإسلام السياسي في آخر انتخابات نيابية، وفي هذه الظروف كان على مندوب الأمين العام للأمم المتحدة السيد ليون ما يمكن أن يكون مهمة مستحيلة، وهي جمع شتات هذه الأطراف المتنافرة المتحاربة التي تمكنت من بعضها نعرات جهوية وعشائرية، مع ولاء لعقيدة سياسية تسبق غالباً الولاء للوطن، علاوة على لوردات حرب، يعرفون أن سلطة الدستور والقانون تعني إنهاء للسلطة التي أخذوها بقوة السلاح، وقد أجرى جولات للمفاوضات وحرر مسودات ولكنها انتهت إلى فشل وتفرُّق واختلاف، ويلوح الآن أمل، في هذه الجلسات الأخيرة التي تشهدها منطقة الصخيرات في العاصمة المغربية، وحدد لها أخيراً موعد في جنيف لتكون الحوصلة الأخيرة وربما المسودة الأخيرة التي يتم فيها الاتفاق على إقامة حكومة وحدة وطنية، تنضوي كل البلاد تحت سلطتها، بما في ذلك الجماعات المسلحة التي ستعمل وفق قوانين وتراتبية ونظام المؤسسة العسكرية الرسمية. وسيقوم المشاركون بالتوقيع على نسخة نهائية من وثيقة المصالحة في جنيف، بعد أن تحصل على إمضاءات بالحروف الأولى على نسخة مبدئية لم ينضم إلى توقيعها كل الفرقاء. وسبب هذا الأمل في الوصول إلى نتيجة، الذي لاح أخيراً، يأتي من النقاط الست الآتية:
الأولى: ثمة شعور شعبي عارم غامر، تم التعبير عنه في تظاهرات وتوافقات جهوية ومن خلال مجالس بلدية منتخبة، يؤكد أن الشعب الليبي بكل فئاته وأطيافه وعناصره ومناطقه يريد انتهاء هذه الانقسامات التي أنتجت له أزمات معيشية، تعطلت خلالها المرتبات، وانهارت قيمة العملة، وكثرت البطالة، وتضاءل الدخل من النفط إلى حد يهدد بإفلاس الدولة، وتفاقمت الأزمات التي يعاني منها الناس معاناة يومية، متمثلة في غياب التيار الكهربائي، ونفاد الوقود من محطات البنزين، ونفاد الدقيق من السوق، ووقف المطاحن والمخابز عن العمل، وصولاً إلى أزمات في ماء الشرب، وانهيار يتزايد في الأمن وانتشار الجريمة المنظّمة، جعلت صرخة الرأي العام الليبي تصل واضحة إلى آذان أهل الحراك السياسي وتهددهم بثورة تطيحهم كما أطاحت القذافي.
الثانية: التمدُّد «الداعشي» الذي وصل إلى احتلال إحدى كبريات مدن ليبيا، وعاصمة المنطقة الوسطى وهي سرت، ويحتل جزءاً من شاطئ البحر المتوسط المطل على أوروبا مداه 200 كيلومتر، يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية سيطرة كاملة على هذه المدينة، تخفق أعلامه السود فوق أبنيتها ومؤسساتها الاقتصادية والإدارية والسياسية ومطارها ومينائها، وقد ارتكب عدداً من المجازر، وهاجم حياً شعبياً لأن شيخاً سلفياً أعلن التمرد على «داعش»، فطاول الانتقام المنطقة كاملة وجرى ذبح رجال ونساء في الشوارع، وتعليق للجثث في أماكن عامة، ما أطلق صرخة احتجاج وفجيعة تردّدت أصداؤها لدى الرأي العام العالمي والعربي. علماً أن غالبية عناصر هذه العصابة، آتية من أصقاع بعيدة لا يمثل الليبيون فيها إلا نسبة قليلة، والآخرون من اليمن وتونس ومصر والجزائر وغير عرب من أفغانستان وبنغلادش، وانضم إليهم أخيراً عدد كبير من الأفارقة الآتين من عصابة «بوكو حرام».
الثالثة: هي أن الفراغ الناتج من غياب الدولة جعل الساحة مفتوحة، ليس فقط لعصابات التطرف الديني، ولكن لعصابات الجريمة المنظمة، تهريباً وتجارة في السلاح، ثم تأتي أكثر هذه العصابات، استفزازاً للضمير العالمي وجلباً للكوارث التي تتكرر كل يوم، وهي تلك التي تتاجر بمآسي الفقراء، الهاربين من جحيم البؤس في بلدان الجنوب، إلى حلم الحياة في دول الشمال.
انهيار الدولة في ليبيا، وغياب السيطرة على حدودها المتاخمة لدول جنوب الصحراء وحزام الفقر الأفريقي، والشاطئ الليبي الذي يبلغ طوله ألفي كيلومتر، مطلة على قارة أوروبا، خالية من الرقابة وسلطة الدولة، قدّم كل ذلك فرصة لازدهار هذه التجارة، وانطلاق مراكب الموت من الساحل الليبي التي قد تصل إلى هدفها، وقد تتحول إلى جثث طافية فوق مياه البحر ترمي بها أمواجه إلى الشاطئ، وتكررت الكوارث التي استصرخت ضمير العالم تدعو صانعي السياسات وأرباب القرار إلى إيقاف هذه الكوارث، والبحث عن حلول لها، إحداها إيجاد حكومة تملأ الفراغ في ليبيا، وتسيطر على الحدود والسواحل الليبية التي يستخدمها المهاجرون أرض عبور ومحطة انطلاق.
الرابعة: تنامي الضغط الدولي الداعي إلى إيقاف العبث الذي يحدث في ليبيا، والذي أطال عمر الأزمة، في هذه الدولة المصدّرة للنفط، ذات المكان الاستراتيجي بين شرق العالم العربي ومغربه، وبين أوروبا والعمق الأفريقي، لأن نتائجه الكارثية لن تقتصر على ليبيا وأهلها فقط، ولكنها تفيض على دول الجوار، ودول الإقليم، ودول الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط. وتصاعدت دعاوى الحل من كل ركن من أركان العالم، إقليمياً ودولياً، دعاوى من أميركا وروسيا، من الاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، من الجامعة العربية ومحيطها الإقليمي، تطالب بإيقاف التردّي والانهيار، والبحث عن حل لأزمة ليبيا التي صنعت ضحايا عرباً وأفارقة وأوروبيين، عدا ضحايا الاقتتال من الليبيين، وآخرين ذبحهم الإرهاب النابع من أرض ليبيا، وأنتج أفلاماً عنهم وهم يُنحرون على شواطئها وفي صحاريها، أو ضحايا آخرين أُرسل القتلة للفتك بهم في سواحل تونس أو واحات مصر أو جبال الجزائر.
الخامسة: من الواضح أن الأطراف المتصارعة، المتحاربة، وقد طال بها أمد الصراع، تعويلاً على أن تحصل على الدعم والموارد التي تؤهلها لتقوية مركزها، وحسم الصراع لمصلحتها، أخفقت جميعها في تحقيق هذا الأمل، وظلت تراوح مكانها، واكتفى كل طرف بالتمكين لنفسه في قطعة الأرض التي استولى عليها من الخريطة الليبية، وتعزيز وجوده فيها، متخلياً عن فكرة أنه قادر على دحر الخصم، وإخراجه من المشهد، والقضاء على وجوده وسط المعادلة، فكان الإذعان لفكرة أن يأتي طرف ثالث يقف على الحياد، هو بعثة الأمم المتحدة، ويدخل حكماً بين المتصارعين المحليين، ويضمن لكل طرف حصة في الترتيبات الخاصة بمستقبل البلاد، أمراً لا مندوحة عنه، وهو ما حصل وما جعل الصلح بين المتنافرين المتناقضين الماسكين أعناق بعضهم بعضاً، ممكناً.
ليبيون في قوارب الموت
السادسة: وليست الأخيرة ولكنني سأجعلها كذلك هذه المرة، تاركاً بقية النقاط إلى مناسابات لاحقة، لأنه يصعب احتواء كل هذه الأزمات والكوارث في مقال واحد، وهي نقطة لا بد من ذكرها، على رغم أنها تأتي عرضاً، وفي شكل طارئ ومباغت، وهي ضبط عدد من الليبيين، في قوارب المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا سالمين إلى إيطاليا، وهو ما أطلق ناقوس الخطر والفجيعة، يدق عالياً في قلب كل مواطن ليبي وعقله، داخل الحراك السياسي وخارجه، مذكراً بالأوج الذي وصلت إليه المأساة في ليبيا.
أقول باعتباري شاهداً على الأحداث، وجزءاً من المحنة التي يعيشها المواطن الليبي، بأنني عشت على مدى السنوات التي سيطر فيها القذافي على الحكم، لا أطأ أرض البلاد، إلا لأخرج منها باحثاً عن مساحة للشهيق والزفير، بسبب الأجواء الخانقة في البلاد، وزوابع الرمل التي يثيرها «رسول الصحراء»، ولكن خيار العودة إلى بيتي في طرابلس كان خياراً متاحاً دائماً، وكنت أعود إلى البلاد وأرحل عنها متى أريد، ولكنني الآن، وقد انتهى القذافي ونظامه الكريه، أجد نفسي وللمرة الأولى هارباً من البلاد، غير قادر على العودة إليها، في ظل الاحتراب والخطف وغياب القانون. ألتصق بالأرض، أنصت إلى وقع أقدام الميليشيات، متى أسمعها تغادر عاصمة البلاد كي أستطيع العودة إليها.
هل سيحدث هذا في وقت قريب، وهل ستعود الحياة في ليبيا إلى سياقها الطبيعي. إنني أقول نعم، ليس تعبيراً عن رغبة في ذلك، ولكن عن يقين بأنه خبر سنسمعه في الأسابيع المقبلة بإذن الله، وسأعود إلى بيتي في طرابلس، وستعود طرابلس عروساً للبحر الأبيض المتوسط كما كانت في أزمنة مضت، وسيعود تمثال الغزالة والصبية التي تغتسل عارية تحت النافورة، والذي اختطفه أهل التطرف الديني، ليحتل مكانه وسط حدائق البلدية كما كان. لقد عانت طرابلس طويلاً وكثيراً من زوابع الصحراء التي تكتم الأنفاس وتجفف الماء في الآبار وتردم المواطنين تحت رمالها، ولن يحتاج الليبيون إلى الذهاب بحثاً عن هذه الرياح لقتلها في منابتها، لقد انتهت إلى غير رجعة، كما انتهى صانعوها، وسيجلسون على شاطئ بحر طرابلس الجميل ينعمون بأنسام البحر التي عادت عزيزة كريمة لاحتضانهم بعد فراق طويل.
* روائي ليبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.