لا سياسة في الواقع، ولا سياسة نضال حقيقية، من دون توافر ارادة سياسية واضحة لدى القوى المتنافسة على أي ساحة من الساحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا إرادة سياسية في امكانها أن تتغافل أو تتجاهل مفعول وضرورات موازين القوة على مجال التحرك السياسي توسيعاً أو تضييقاً، دعماً أو مناوأة لمختلف المبادرات التي يتم الإقدام عليها. تفترض الممارسة السياسية اذاً، توافر ارادة واعية بضرورات وإكراهات الظروف الموضوعية والذاتية، والاستعداد لتكييف برامجها وآليات نشاطها مع مقتضيات هذه الظروف، بحيث لا تتحول الى مانع للممارسة النضالية غير قابل للتجاوز. وبتعبير آخر، ليست هناك ارادة سياسية بالمعنى الحقيقي إذا كانت معلقة في سماوات التمنيات، والخيال السابح في الفراغ والذي لا يرسو على وقائع الحياة السياسية الملموسة. قد يرى البعض في وقائع هذه الحياة، وفي مقولة موازين القوة، وضروراتها عائقاً سلبياً امام اندفاع الارادة في سبيل تنفيذ الطموحات المشروعة للقوى السياسية التي تنشد التغيير او تعمل من أجل تحقيق بعض الاهداف التنموية المسطرة في برنامجها العام، وبالتالي، فإنه، لا يتوقف عن لعن هذا المفهوم، ومن يستعين به في تقدير الشروط الفعلية للممارسة. وقد يذهب في الدفاع عن موقفه مذاهب شتى استناداً الى أمثلة وشواهد في التاريخ القديم او المعاصر بعد انتزاعها من سياقها الفعلي انتزاعاً يشوّه الحقائق، ولا يساعد على قراءة الوقائع، واستخلاص عبرها ودروسها، كأن يشير الى بعض الثورات التي ما كان ممكناً التكهن بإمكانية نجاحها بسبب الاختلال الكبير في ميزان القوة بين قوى الثورة واعدائها، كما حصل في ايران مثلاً مع حركة الإمام الخميني، وكما وقع في بعض بلدان اوروبا الوسطى والشرقية حيث كان التحكم البوليسي على درجة من الإحكام والشدة بحيث كان يستحيل حتى التفكير في زحزحة الانظمة عن مكانها. إلا أن الواقع الفعلي، قد كذب ما كان يبدو بمثابة حقائق غير قابلة للنقاش. غير ان امعان التفكير في ضرورات موازين القوة يؤدي حتماً الى اعتبارها عامل عقلنة للإرادة وإخراجها من دائرة العواطف المشبوبة لتحل مكانها الطبيعي في التفكير في الشروط الملائمة لوضع المقتضيات الممكنة للإرادة السياسية موضع التنفيذ، أي لتكون احدى الأدوات الفعالة في الممارسة السياسية، في مقابل ارادة او ارادات سياسية اخرى، لا تألو جهداً في العمل على عرقلة تلك الارادة وإبعادها من تحقيق اهدافها، على قاعدة ادراك خصوصي لتلك الضرورات والعمل على جعلها في خدمة الاستراتيجيات المضادة او المنافسة. وبطبيعة الحال، فإن تجاهل تلك الضرورات، وإسقاطها من حساب التقدير السياسي، يضاعفان من شروط انتكاس الارادة السياسية في مساعيها، إن لم يؤديا الى تدمير كل أمل معقود على القوى الراغبة في انجاز التغيير في أن تحقق ما سطرته في برنامجها لاصطدامها الحتمي مع ثقل وتأثير العوامل التي تمت محاولة تجاهلها او الاستخفاف بأهميتها. ذلك أن المعادلة لا تقتصر على الضعف المترتب على عدم أخذ مجمل وقائع الحياة السياسية في مختلف ابعادها في الاعتبار، فحسب، بل إن مواجهة خصم سياسي يدرك أهمية تلك الوقائع، ويعمل على تسخيرها لخدمة التكتيك السياسي او الاستراتيجية التي يعتمدها تجعل ضعف الموقف الأول مركباً بما يجعل المواجهة بينهما مختلة الى أقصى درجات الاختلال، الأمر الذي يعني استحالتها، في نهاية المطاف، بحيث يكون الموقف المتجاهل لتلك الوقائع والمعطيات الملموسة مجرد منفعل ومتحمل لتبعات الموقف المدرك لها والفاعل بحسب ما تمليه عليه، وبما يخدم الخصوم، أولاً وقبل كل شيء. فبأي معنى يتم الحديث هنا عن انتزاع الشواهد والأمثلة السابقة من سياقها؟ إن الأمر يعود، بكل بساطة، الى النظر اليها بعين سكونية تقيس موازين القوة بمفردات تخرج من دائرة حسابها الفعل الانساني المباشر الذي لا يتوقف عن التأثير في الواقع وترجيح هذه الكفة أو تلك من موازين القوة فيه. إن استحضار حدث الثورة الاسلامية الايرانية، والثورات الديموقراطية ضد الانظمة الشمولية في اوروبا الشرقية والوسطى، بخاصة بعد سقوط جدار برلين عام 1989، يجعلنا أمام واقع لعبت فيه تراكمات العمل السياسي والتعبوي للتيارات المنشقة والقائدة لعملية التغيير الدور الحاسم على اعتبار ان قدرتها على الزج بأوسع الجماهير في معركة التغيير في الوقت المناسب قد ساعدت على إحداث تحول نوعي في موازين القوة لمصلحة الجماهير بخاصة بعدما تم تحييد بعض القوى الداخلية والخارجية التي كانت تدعم الانظمة السائدة في تلك البلدان كحالة ايران نظام الشاه مع الولاياتالمتحدة خصوصاً ومع الدول الغربية عموماً، وحال الدول الشرقية مع تخلي الاتحاد السوفياتي السابق عن دعمها. إن قدرة القوى الحية في تلك البلدان على أخذ زمام المبادرة، في الوقت المناسب، كان لها بالغ الاثر في مجريات الامور، وتوجيهها نحو تحقيق النتائج المرجوة وفي مقدمها الاطاحة بالأنظمة الديكتاتورية والشمولية والتمهيد لبناء مؤسسات جديدة ضمن موازين قوة مباينة لتلك التي سادت ابان النضال من أجل التغيير. وما كان ممكناً أن تتخذ الأمور مثل تلك المسارات لو لم تتوافر لدى تلك القوى الارادة السياسية الواعية والمدركة لضرورات موازين القوة والابداع في مجال جعلها ملائمة لقوى التغيير. ولا تغير من هذا الواقع طبيعة التطورات اللاحقة في تلك البلدان وسلوك الأنظمة السياسية القائمة فيها شيئاً من حيث الفكرة المبدئية، لأن تلك التطورات فتحت مجالات أخرى للممارسة في ضوء مسألة مراعاة ضرورات موازين القوة كما هو الشأن مثلاً في الصراعات السياسية داخل ايران في الوقت الراهن. * كاتب مغربي