ثمة رابط يجمع بين الصحافي السوداني في صحيفة «الحياة» معاوية ياسين المستكين بعاصفة من الهدوء، وبين الصحافي الأميركي بوب وود العاصف بالهدوء، فكلاهما تخرّج من «عباءة القانون» وكلاهما وإن اختلفت جغرافيتهما انتقلا «طواعية» من العمل في القضاء «الواقف أو الجالس» بتنظيماته الراسخة، إلى «الصحافة» بتشعباتها وعمومياتها، فارق بسيط بينهما هو أن «الثاني» تاجر «جيداً» بدوره «الصدفة» في فضيحة «ووتر غيت» ولوى عنق صحيفته «واشنطن بوست» لتحقيق مجد شخصي له، بينما رفض ياسين المتاجرة في توريد بضاعة «الإحباط» للمتلقي العربي وقت انتسابه إلى «بي بي سي» وقدّم دونما «تردد» استقالة «مسببة» للهيئة البريطانية، التي يضم مبناها في لندن أكثر من «38» إذاعة موجهة، لينضم إلى «الحياة». وفي الوقت الذي حصد فيه وود نجاحاً مقوضاً «أحياناً» من «الاحترام» نجح ياسين في اكتساب «الاحترام» مدعوماً بالنجاح. في بداية حديثه إلى «الحياة» قال ياسين: «دراستي للحقوق أتاحت لي تمرساً أكثر في فقه وفنون اللغتين العربية والإنكليزية على حد سواء، أضفت إليهما الفرنسية لاحقاً، واعتقد أن الصحافة هي البديل للقانون، فمن خلالها يمكنك ممارسة المحاماة، ونقل صوت الآخر إلى الجهات المعنية»، وإن كان لم يُخْفِ انتقاده لتراجع صحافة بعض الدول العربية بقوله: «في بعض البلدان العربية، لا تزال الصحافة هي صوت السلطان، لذا تخلفت عقوداً إلى الوراء، كما هي حال الصحافة السودانية والليبية»، لكنه في المقابل أشاد بالصحافة السعودية، مرجعاً تطورها ونموها في العقد الأخير إلى «تطور الحاكم، وتطور مفهومه للحكم، ودوره القيادي تجاه الشعب» مؤكداً أنه «ابن هذا الكار السعودي منذ أكثر من ربع قرن». في تجربته الشهيرة مع «بي بي سي» بعاصمة «الضباب» لندن يقول ياسين: «مكثت في بي بي سي من عام 1985 حتى 2002 وأعتقد أن خريجي الإذاعة لا يمكن أن ينجحوا في أي مكان آخر، لأنه يتم غسل أدمغتهم، بأن هناك حرية لا تحدها قيود، وصوتاً يصل إلى أي مكان في العالم، وأمامنا تجربتان الأولى للطيب صالح، حين تم انتدابه لإدارة الإذاعة السودانية عام 1967 وفشل، والثانية لحسن أبوالعلا، الذي رفض المشاهد المصري أن يرى نشرة التاسعة مساء على قناته كصورة مستنسخة من نشرة بي بي سي». ياسين سبق انتقاله ل «الحياة» بتقديم استقالة للإذاعة البريطانية أبدى فيها «تحفظات على القيود على العمل الإخباري بالإذاعة، والاعتماد فقط على الترجمة، وتعطيل الابتكار والموهبة». وذكر أن «تأسيس قناة الجزيرة، كان بمحض الصدفة، إذ اشترى القطريون البي بي سي العربية، بشراً ومعدات، بما في ذلك الزملاء جميل عازار وسامي حداد وفيصل القاسم»، مشيراً إلى أن «هؤلاء الزملاء ما زالوا يعملون كأن التوجهات التي تحكمهم هي توجهات بي بي سي في لندن، التي تسعى إلى دس أنفها في كل شيء، وإثارة القلق والتوتر في المنطقة العربية». لكنه أكد كفاءة أولئك الزملاء مهنياً واحترامه لهم، واختلافه مع ضوابط «بي. بي. سي» التي يحتكمون إليها. وعن كيفية انتقاله ل «الحياة» قال ياسين: «زاملت الرئيس السابق لقسم الشؤون العربية في «الحياة» الأخ ماهر عثمان أثناء عمله في «بي. بي سي»، وكان حلقة الوصل بيني وبين رئيس مجلس الإدارة السابق جهاد الخازن، فانضممت إلى الصحيفة، التي انتقلت ملكيتها إلى الناشر الحالي، فحدثت طفرة في الإنتاج والجودة، وأتاح لي العمل في لندن تجريب عدد كبير من الأشكال المهنية في الصحيفة، ومعاصرة زملاء من كبار الصحافيين اللبنانيين، كما أن نجاح «الحياة» دفع الناشر لإنشاء مجلة «الوسط»، التي انتقلت إليها مع تكليف الزميل جورج سمعان برئاسة تحريرها، وأظن أن مكان هذه المجلة لا يزال شاغراً حتى الآن». وعن رؤيته للعمل وسط فريق كبير في الصحيفة، قال إن «الحياة» تجربة فريدة، «هي أول صحيفة عربية دولية تضع كتاباً للأسلوب، ولعل أهمية ذلك تبدو جلياً في الفوضى في التسميات والاستخدامات اللغوية التي هي سمة الصحف في أقطارنا العربية». وحول تميز «الوسط» بحواراتها الجريئة للزميل غسان شربل مثل الحوار الشهير مع الإرهابي الدولي كارلوس وغيره، قال ياسين: «الوسط كانت امتداداً ل«الحياة»، والزميل غسان شربل يكاد يكون متخصصاً في المقابلات الجريئة، والحاوية لكل ما يريد القارئ معرفته، وهو صاحب سلسلة «يتذكر» الشهيرة، وحوار كارلوس لم يتم وجهاً لوجه، بل عبر محاميه، وهو الذي اختار «الوسط» لإجراء حوار معه، فتم إرسال الأسئلة، وجاءت الإجابات بالبريد». ولأن رحلة معاوية ياسين في الصحافة فاقت ال «25» عاماً فقد عمل مع الكثير من رؤساء التحرير الذين مرّوا على هذه المهنة، بعضهم تأثر بهم كثيراً وهو ما يكشفه ل «الحياة» بقوله: «تعدد رؤساء التحرير الذين تعاملت معهم في السعودية، أكثرهم تأثيراً فيَّ هو رئيس تحرير صحيفة «المدينة» السابق أحمد محمد محمود، فهو صاحب قلم عذب وجريء وصادق ومفعم بالإيمان، ومؤمن بمصالح وطنه، وفي عهده ارتفع توزيع «المدينة» إلى 130 ألف نسخة، ومن المؤسف أن يعتزل ليتفرغ لعمله الخاص، ولم تتكرر التجربة مع شخص بخصائص مماثلة إلا بعد أكثر من ربع قرن، حين أعادتني الأقدار مجدداً للعمل مع المدير العام لتحرير «الحياة» في السعودية والخليج الزميل جميل الذيابي الذي أكد لي أن الصحافة السعودية لا تزال بخير وقادرة على توسيع هامش حريتها».