لا أعرف من المفكرين العرب من أصرّ على مقارنة الثورة الحداثية بالثورة النيوليثية أكثر من هشام جعيط. فهو لا يستعمل هذه المقارنة من باب التشبيه والاستعارة وإنما من منطلق القناعة الراسخة بأنهما ظاهرتان تاريخيتان من النوع نفسه. الثورة النيوليثية (العصر الحجري الحديث) هي الفترة التاريخية التي يحددها المؤرخون بين 4000 إلى 2500 سنة ق م، وقد تميزت بخصائص أساسية شملت كل العالم القديم، وكان العامل الأول في هذه الثورة مناخياً تمثل في انقشاع ما عرف بالعصر الجليدي الذي تواصل قبل ذلك مئة ألف سنة، وحلول مناخ يشبه ما نعرف حالياً، وترتب على هذا التغيير المناخي بروز العامل الثاني الرئيسي للثورة النيوليثية أي الزراعة، إذ أصبح هذا النشاط ممكناً في ظل الظروف المناخية الجديدة بعد أن كانت حياة الإنسان مقتصرة قبل ذلك على الجني والرعي. وترتب على تطور الزراعة استقرار الإنسان وتعلقه بالأرض وظهور الملكية الفردية وأنظمة المحرمات والأديان الخ. أما العامل الثالث فذو طبيعة تقنية ويتمثل في تطور قدرة إنسان الكهوف آنذاك على صقل الحجارة واعتماد الأواني الفخارية وبقية التقنيات التي أخرجته من وضع الطبيعة الصرفة إلى التحكم في عناصر الطبيعة. إذا كانت هذه خصائص العصر النيوليثي فإلي أي مدى تصحّ مقابلة الثورة الحداثية به، كما يقترح جعيط؟ لقد مثّل اعتماد الزراعة بعد الرعي والجني نقلة حضارية هائلة تبرّر فعلاً تشبيهها بظهور الصناعة التي افتتحت حضارة العصر الصناعي، وكما لم تلغ الزراعة الأنشطة التي مارسها الإنسان سابقاً فكذلك لم تلغ الصناعة حاجة الإنسان للزراعة، إلا أن الصناعة دفعت إلى ثقافة جديدة قائمة على العقلنة، وتحولت الزراعة نفسها نشاطاً معقلناً ومصنعاً يتحكم فيه الإنسان ولا يكتفي فيه بالخضوع إلى تقلبات المناخ وتحكمات الطبيعة. ثم هناك عنصر آخر يبرّر المقارنة يتمثل في أن العصر النيوليثي مثل بداية انقسام المجموعات البشرية بحسب «ثقافات»، وبرزت فيه أقاليم تختلف في ما بينها ببعض الخصائص مع أنها تجتمع حول الانتماء إلى نفس العصر والحضارة، فبدأت تظهر ملامح آسيوية شرقية وملامح شرق - أوسطية وملامح أوروبية غربية الخ. وتكرست الظاهرة نفسها داخل المجموعات الضيقة إذ تطور اهتمام الإنسان بالذاكرة وأصبحت الثقافة عنصراً محدداً في حياة المجوعات الصغيرة أيضاً، فظهرت الأسرة والنسب والسلف وتميزت كل مجموعة بديانتها وآلهتها. في المقابل، تفتقر الثورة الحداثية إلى ذلك العنصر القاهر المتمثل في النقلة المناخية النوعية التي لم يكن للإنسان فيها يد، وهي النقلة التي حوّلت مركز البشرية آنذاك من إفريقيا مهد البشرية إلى الشرق الأوسط الذي شهد ظهور الحضارات الأولى (أما أوروبا فقد تأخر دخولها العصر النيوليثي حوالى ألف سنة!). وثمة عنصر مباينة آخر يتمثل في أن العصر الصناعي سرعان ما شهد تحوّلاً مهمّاً داخله، إذ تحوّلت الصناعة إلى نشاط خدمات ومعلومات، وتخلص العصر الصناعي من نزعة تضخيم التجمعات السكانية وفرض أنماط إنتاج شديدة العقلنة وتجريد الإنسان من انتماءاته القبلية والعقدية لصالح الإنسان الكوني الذي هو أيضاً الإنسان الذي تتحدد قيمته بالقدرة على العمل لا غير. وبذلك فقدت حضارة العصر الصناعي طابعها العقلاني الصارم (وهو طابع لم تشهده إلا أوروبا لأنها وحدها قد مرت بعصر صناعي خالص أثناء الثورة الصناعية التي هي جزء من الثورة الحداثية). وقد أنتجت مرحلة ما بعد الصناعة ثقافة ما بعد الحداثة، حيث تفقد العقلانية مركزها المحوري وتبرز الذاتيات بمختلف أشكالها. وبما أن التاريخ يتقدم مثل حركة البندول فإن الإفراط سابقاً في عقلنة الحياة البشرية قد فسح المجال إلى اتجاه مضاد لعودة النزعات الدينية والقومية المتشددة، مع أن هذا التحوّل إلى الذاتية قد حصل لمصلحة المؤسسات الصناعية الضخمة التي لم تعد في حاجة إلى تجميع القوى العاملة بل تفضل توزيع الإنتاج وتفتيته في العالم المعولم بما يستجيب لقاعدة التكلفة الأدنى. والمحصلة أن المقارنة بين الثورة النيوليثية والثورة الحداثية لا تخلو من وجاهة من جهة تأكيدها أمراً رئيسياً هو أن انتقال مجموعة بشرية إلى نمط حضاري أرقى يجرّ كل المجموعات الأخرى للتكيف مع هذا الانتقال والسير في اتجاهه. فكما وجدت حضارة نيوليثية واحدة يمكن القول إنه توجد أيضاً حضارة صناعية ثم معلوماتية واحدة تشمل كل البشر. إلا أن الثورة النيوليثية لم تمنع سابقاً من وجود حضارات فرعية عديدة ومتنوعة داخل الحضارة الإنسانية الجامعة، وأولى أن يكون الأمر على هذا الشكل اليوم لسببين. أولهما أن الثورة الحداثية لا تتميز بنفس القوة الإلزامية التي طبعت النيوليثية الناتجة من عامل مناخي لم تكن للبشر فيه يد أو مبادرة. ثانيهما أن الذاكرة الإنسانية أكثر تعقيداً في العصر الحاضر مما كانت عليه مع ظهور الثورة النيوليثية. إن أهم ما يميز طرح القضية بالشكل المعدل الذي اقترحه في هذا المقال القابلية للتخلص من الثنائية المقيتة التي انغلق فيها الفكر العربي منذ حوالى القرن، أقصد ثنائية الحداثة والتراث. فهي ثنائية تدفع إلى الإيهام بالاختيار بين شيئين، لكن طرفي المعادلة هما في الحقيقة من طبيعة مختلفة، فحداثة وتراث لا يشيران إلى نمطين حضاريين يمكن أن نأخذ أحدهما ونلغي الثاني أو نوفق بينهما، لأن التراث ذاكرة والحداثة نمط حضاري، والذاكرة لا تستعاد لكنها توظف حسب النمط الحضاري الحادث، كما لا يمكن التخلص منها أيضاً لأنها جزء من الإنسان والمجموعة، لكنها قابلة لاتخاذ وظائف ومواقع مختلفة بتغير النمط العام لحياة الإنسان. فالسؤال ليس «التراث أم الحداثة»؟، بل «ما هو موقع التراث ووظائفه في ظل الحداثة؟».