في الاجتماع الذي عقده وزراء الاعلام العرب خلال كانون الثاني (يناير) الماضي، طرح أمين عام الجامعة العربية مشروع إنشاء «مفوضية عامة للاعلام العربي». في «الفذلكة» التي رافقت الاقتراح، أشار الأمين العام الى ان «هذا المشروع يهدف الى تحديث منطلقات الخطاب الاعلامي العربي وضمان مستوى عال من الموضوعية في محتواه كسباً لثقة المواطن العربي وارساء لصدقية هذا الخطاب لدى الرأي العام العالمي. أثار المشروع نقاشاً داخل الاجتماع بين متحمس له او امتحفظ بحدود، كما اثار ردود فعل رافضة ومحذرة من خطورة ان يكون المشروع طريقاً لإضفاء هيمنة اقوى وشرعية على الكلمة عموماً والاعلام خصوصاً. في المناقشات الرسمية التي دارت داخل الجامعة العربية، تبنى عدد من الوزراء مشروع الامين العام، ووافقوا على الاهداف التي طرحها كحجة في تأييد اقامة هيئة عربية رسمية للاعلام، من دون التطرق الى تفاصيل كيفية عمل هذه الهيئة والصلاحيات المعطاة لها، والحد الفاصل بين ان تكون هيئة رقابة ذات سلطة، او مجرد هيئة توجيهية ذات رأي استشاري وملزم. وعلى رغم الاتجاه العام الداعم للمشروع من قبل معظم الوزراء، الا ان اصوات صدرت متحفظة على المشروع استناداً الى ائره السلبي المحتمل على تكوين رأي عام حر وعلى الحريات السياسية والفكرية، وكذلك على نمط الممارسة السياسية للسلطات في تطبيق توجهاته، وقد صدرت ابرز التحفظات عن وزير الاعلام اللبناني. أدى التباين في بعض وجهات النظر والردود غير الرسمية الرافضة له التي رافقت الاجتماع الى تأجيل البت به، واعادة مناقشته في دورة استثنائية لاجتماع «لجنة الاعلام العربي» التابعة للجامعة العربية. كان رد منظمة «مراسلون بلا حدود» ابرز الردود المباشرة الرافضة للمشروع والمحذرة من نتائج اقراره، فوصفته بأنه «يدعو الى القلق، وكأنّ الجامعة ستقوم بدور الشرطي للرقابة على الاعلام العربي. ومكمن الخطر في ان هذا الشرطي الخارق قد يستخدم لمراقبة كل المحطات التلفزيونية التي تنتقد الحكومات في المنطقة. وقد يتحول في النهاية الى سلاح قوي في وجه حرية تبادل المعلومات». وترافقت ردود الفعل الرافضة مع حملة قادتها وسائل اعلام مرئية ومكتوبة مبدية خشيتها من المضمرات الكامنة وراء طرح هكذا مشروع، ومبدية قلقاً وخشية من نتائج كارثية تتوعد الاعلام العربي في مجمل ارجاء الوطن العربي. دفعت ردود الفعل الرافضة رئيس اللجنة الدائمة للاعلام العربي الى التصريح بأن «المفوضية العربية للاعلام لا تهدف الى فرض الرقابة على الفضاء، وليست شرطياً على الاعلام العربي، ولكنها لحماية المصالح العربية». كثيرة هي المبررات التي تدفع للتوجس من مشروع يصب في النهاية في السياسات العربية الرسمية تجاه الاعلام بكل جوانبه المرئية والمسموعة والمكتوبة. فالعقلية التي لا تزال تتحكم بهذه السياسات قائمة على تقييد حرية الرأي ومنع النقد لممارسات هذه السلطة، والسعي قدر الممكن لمنع وصول الحقائق الى الجماهير او التسبب في وعي المواطن ادراك اضرار السياسات الرسمية على مصالحه. ان اكثر ما يثير الحذر والخوف في تصريح المسؤولين عن طرح المشروع هو تعبير «حماية المصالح العربية»، الذي يطرح تساؤلات عن طبيعة هذه المصالح، هل هي مصالح الشعوب العربية في حريتها وحقها في العمل السياسي والتعبير عن آرائها، ومطالبتها في توظيف الثروات العربية بما يخدم تحسين اوضاعها المعيشية، وإقامة تنمية في العالم العربي، ام هي مصالح الحاكم المستأثر بالسلطة والمحتكر للقرار والمهيمن على الثروات وتوظيفها بما لا يتصل بمتطلبات وحاجات الشعوب العربية. هذا التباين في تحديد معنى المصالح العربية كان دوماً مصدر قلق لدى العاملين في الاعلام، لأن تفسيره كان دوماً يصب في مصلحة الحاكم. ويكمن التحفظ ايضاً على المشروع من كون الحاكم لا يكتفي فقط بالسعي الى حجب المعرفة ومنع كشف الحقائق للشعب، بل يريد الرقابة في وصفها من اهم وسائل الامساك بالسلطة وممارستها، لأن الحرية الاعلامية تمثل ابرز مقومات «هروب السلطة» من يد الحاكم، بما يجعل الكلمة مصدر قوة شعبية، قابلة للتحول الى قوة مادية يمكن لها ان تهدد مصالح الحاكم وتنذر في الوقت نفسه بتفسخ سلطته او وضعها على شفير الانهيار. ان نمط السياسات العربية المعاكسة لمصالح وطموحات الشعوب العربية «تبرر» لهذه السلطات كل الحذر من انفلات الاعلام وخوضه عميقاً في شؤون البلد وكيفية ادارة ثرواته، كما سيكشف حجم الفساد السياسي المسؤول عن كثير من مظاهر التخلف العربي وديمومته. وينبع الحذر من المشروع «الرقابي» على الاعلام من كون ثورة الاتصالات المتمثلة بالفضائيات العربية والانترنت تغزو اليوم العالم، وتتسبب في تقديم المعلومات والمعرفة وكشف الحقائق ونقلها الى كل بيت، بعد ان حولت هذه الثورة العالم كله الى «قرية صغيرة»، واخترقت الزمان والمكان بل وتجاوزتهما. يقلق الحاكم العربي من هذا «الانفلات» المعرفي ومن اطلاع الجمهور على مجريات الوقائع في بلده، ويتخوف من ان يؤدي ذلك الى المساءلة او المطالبة بتعديل هذا النهج او المشاركة الأوسع للشعب في ممارسة السلطة. وعلى رغم ان ثورة الاتصالات في العالم العربي لا تزال تعاني من قيود في عملها، سواء عبر قيود تفرضها السلطة من خلال اقفال المدونات وسجن بعض اصحابها، او من خلال التحكم في بعض الفضائيات وتوظيفها لمصلحتها، على رغم كل ذلك، فإن ثورة الاتصالات ساهمت الى حد كبير في تقديم صورة حقيقية عن سياسات السلطات العربية، وكشفت المستور عن التناقض بين حاجات الشعوب ومصالح الحكام. آن الأوان لأن يدرك الحاكم العربي ان الرقابة على الاعلام في العصر الحديث تسير نحو خواتيمها لتصبح من الماضي السيئ السمعة. كما آن له ان يتجاوز الشعارات اللفظية لتبرير الرقابة تحت عناوين المصلحة الوطنية والقومية والاخلاق ومكافحة الارهاب.. لان المواطن العربي خبر خلال عقود من ممارسة هذه السلطات، ان هذه الشعارات كانت دوماً مدخلاً لإلقاء القبض على حرية الكلمة وعلى الحق في ممارسة العمل السياسي. حتى الآن، يبدو الامل ضعيفاً في ادراك الحاكم العربي للتحولات الجارية على هذا الصعيد وما يترتب عليها في تغيير العقلية السائدة في ممارسة السلطة. * كاتب لبناني.