تحاول أسواق الأوراق المالية حول العالم التعافي من موجة هبوط تباينت حدته مطلع الأسبوع الجاري، غير أن الاتجاه إلى التعافي قد لا يتضح كاملاً إلا اليوم (الثلثاء) أو غداً (الأربعاء). وتسود الأوساط الاقتصادية حال من القلق، انعكست من خلال الخسائر الباهظة التي شهدتها السوق السعودية، إذ سجل أول من أمس خسارة بلغت 549 نقطة، تعادل 6.8 في المئة. وقال اقتصاديون ل«الحياة» إن القلق نجم عن المخاوف من استمرار هبوط أسعار النفط، والعجز المتوقع في الموازنة السعودية المقبلة، إضافة إلى أوضاع المنطقة. غير أنهم أجمعوا على أن الوضع لا يدعو إلى التعامل مع الأحداث بنطرة تشاؤمية، خصوصاً مع أسعار النفط التي تأتي برغبة من منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لجلب فوائد على المدى الطويل. ورأى الاقتصادي فضل البوعينين أنه مهما بلغت قوة الاقتصاد فهو معرض للهزات والمتغيرات الداخلية والخارجية، وهو أمر تمكن مشاهدته في جميع دول العالم، مؤكداً أنه لكل اقتصاد دورة لا بد من استكمالها، وقد تطول مراحل الدورات أو تقصر، إلا أن ذلك لا يمنعها من استكمال حركتها الدائمة، ومتى كان الاقتصاد أكثر تنوعاً في مصادره كان ذلك أدعى لحفظ التوازن، وانضباط الحركة، وتخفيف حدة الصدمات، وسهولة التعامل مع الأزمات، وإيجاد الحلول الناجعة لإنعاش الاقتصاد، والنهوض به من كبوته. أما الاقتصادات الريعية والمعتمدة على مصدر واحد للدخل، كالدول النفطية، فهي أكثر معاناة في مواجهة الدورات الاقتصادية، وأقلها قدرة على الاختيار من البدائل المتاحة لندرتها. وأضاف: «الفريق الاقتصادي الكفء هو الذي يستطيع أن يحقق الإدارة المتوازنة والذكية للاقتصاد في حالي الرخاء والشدة، فلكل مرحلة أسلوبها الخاص، وهو أمر يحتاج دائماً إلى الاستراتيجيات المحددة الأهداف، والمنضبطة التنفيذ. تختلف إدارة الاقتصاد بشكل كلي عن إدارة أموال الدخل، تحصيلاً وإنفاقاً، وهو ما نؤكده دوماً، ونتمنى اكتمال نموذجه العلمي محلياً. وبالعودة إلى الاقتصاد السعودي نجد أنه خرج من أزمات مالية متراكمة في الثمانينات والتسعينات الميلادية، إذ وصلت نسبة الديون السيادية إلى 109 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي آنذاك، وكانت أسعار النفط في أدنى مستوياتها، وكانت الدولة في حاجة ماسة إلى الإنفاق التنموي، ومواجهة التزاماتها المالية، ومع كل ذلك خرجت السعودية من أزمتها المالية، ونجحت الحكومة في خفض الدين العام إلى 44.3 بليون ريال، تعادل 1.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وبناء احتياطات من فوائضها المالية بما يقارب 2.3 تريليون ريال، تحوطاً لمواجهة متغيرات أسعار النفط، والأزمات المالية والاقتصادية». وذهب البوعينين إلى أن العام 2014 كان بداية توديع الموازنة السعودية فوائضها المالية، وعلى رغم ذلك بنيت موازنة 2015 على أسس توسعية، بدلاً من التحفظ، خصوصاً مع عدم وضوح الرؤية في شأن تعافي الاقتصاد العالمي، ومستقبل أسعار النفط، وهو ما زاد صعوبة تحقيق التوازن المالي. ومع انخفاض الدخل، لأسباب مرتبطة بانخفاض أسعار النفط، استمرت الحكومة في إنفاقها التوسعي، وتحملها نفقات إضافية غير مجدولة، ما جعلها في حاجة دائمة إلى سد العجز بالسحب من احتياطاتها الخارجية، إضافة إلى بقاء أسعار النفط عند مستوياتها المتدنية في النصف الثاني من العام الحالي، خلافاً لتوقعات المراقبين، اضطرت الحكومة إلى التعامل مع العجز وفق استراتيجية جديدة تتوافق مع حجمه الحقيقي وفرضية ديمومته، فتوجهت نحو إصدار السندات لتمويل العجز، وهو أمر وصفه صندوق النقد الدولي ب«المناسب». رهانات خيار السندات الحكومية وزاد: «أعتقد أن إصدار السندات هو الخيار الأنسب في الوقت الحالي، غير أن أفضليته تبقى مرتهنة بتحقيق الكفاءة الاستثمارية للاحتياطات الخارجية، وبما يسهم في تعزيز عنصر الأمان فيها، ويرفع عوائدها المالية. إصدار السندات لا يعني بالضرورة عدم توافر السيولة الحكومية، ولكن ربما كانت مرتبطة بأهداف مختلفة داعمة للاقتصاد»، وهو ما يحتاج دائماً إلى توضيحه بكل شفافية، قبل الشروع في إصدار السندات، وبما يساعد في جاذبيتها، والقدرة على تسويقها من جهة، ويحقق الاستقرار للعملة والقطاعات المالية من الجهة الأخرى. وإضافة إلى ذلك، فإن الاستخدامات الحكيمة للسيولة المتاحة وتوجيهها نحو المشاريع المنتجة، ومنها قطاعات الصناعة، الطاقة، النقل، وغيرها من المشاريع المدرة للدخل، سيعزز كفاءتها، ويجعلها أداة عملية لبناء الاقتصاد ودعمة». ويعتقد البوعينين أن الجهود المبذولة للتعامل مع الأوضاع المالية الطارئة يجب أن تتوجه نحو إيجاد حلول استراتيجية وعملية لتطوير الاقتصاد، وإعادة هيكلته على أسس حديثة تقوده نحو الانعتاق التدريجي من النفط. وعلى رغم الفرص المفقودة لتطوير الاقتصاد، وبطء الحركة، ومحدودية الإبداع في الشأن الاقتصادي، فإن مقومات النجاح لا تزال متوافرة، ويمكن بقليل من الجهد استثمارها لإعادة بناء الاقتصاد على أسس سليمة، وبعيداً عن الفكر الريعي الذي لم تُجْن منه سوى الحسرات. وأضاف: «يُقال إن المنح تخرج من بطون المحن، ومعضلة انخفاض الدخل الناجم عن انخفاض أسعار النفط يفترض أن تدفع الحكومة نحو تحقيق هدف تنويع الاقتصاد، وبالتالي تنويع مصادر الدخل، وإعادة هيكلة الاقتصاد، وخلق موارد مالية دائمة لتمويل الموازنة مستقبلاً، واستثمار المقومات المتاحة لخلق اقتصاد متين قائم على التنوع الإنتاجي والصمود أمام الأزمات، هو المطلوب حالياً. يفترض أن تنتهج الحكومة سياسة اقتصادية منفتحة وجريئة لإحداث الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة». وحول ما حدث في أسواق النفط أخيراً، وما قد يحدث مستقبلاً، أكد أن «هذا يجعلنا أكثر حاجة إلى تنويع الاقتصاد وخلق قطاعات إنتاج جديدة قادرة على خلق الوظائف، وزيادة الناتج المحلي، ورفع حجم الصادرات وتوفير مصادر دخل حكومية مستقلة عن إيرادات النفط». وأكد أن «تحديات الدخل الحالية يفترض أن تدفعنا نحو مراجعة الخطط الاقتصادية التي لم تسهم في تحقيق الأهداف الرئيسة، وأن تحفز الحكومة على مراجعة خططها الاستراتيجية ذات العلاقة بتنويع مصادر الدخل، وبناء قطاعات الإنتاج، إضافة إلى دعم القطاع الخاص، وتفعيل دوره في التنمية، ومساعدته في تحمل مسؤولياته الرئيسة، والانعتاق التدريجي من الإيرادات النفطية». أدوات للمعالجة السريعة وطالب البوعينين بضبط الإنفاق الحكومي، والتخلص من المبالغة في تقويم المشاريع والعقود الاستشارية الضخمة، التي يشكل بعضها هدراً للأموال، ووقف تحمل أجور ونفقات مالية تحت بند الاستشارات، إضافة إلى مكافحة الهدر، والفساد المالي المتغلغل في العقود الحكومية، ذلك كله من أدوات المعالجة السريعة للوضع المالي. في الوقت الذي يسهم فيه تحقيق كفاءة الإنفاق في تحسين الأداء المالي وجودة المخرجات. وأضاف: «خصخصة بعض القطاعات الحكومية ربما كانت من أولويات المعالجة وأهمها على الإطلاق، فالسيطرة على الأجور والالتزامات المالية يمكن تحقيقها بسهولة من خلال الخصخصة، فنحقق من خلالها أهدافاً متنوعة، منها دعم مشروع هيكلة الاقتصاد، وتفعيل دور القطاع الخاص، ورفع كفاءة الخدمات المقدمة، وفتح أبواب المنافسة، وخفض التزامات الحكومة المالية، وتحقيق مصدر دخل إضافي للحكومة بما يسهم في تنويع مصادر دخلها مستقبلاً، وأضرب مثالاً بشركة الاتصالات السعودية عند خصخصتها، وكيف أسهمت الخصخصة في جودة الخدمات المقدمة، وخفض التكاليف على المستخدمين، ورفع دخل الحكومة من الأرباح المتأتية منها، ووقف ما كانت الحكومة تتحمله من التزامات مالية لتطوير قطاع الاتصالات». وقال البوعينين إن تطوير التعليم والتوسع في التعليم التقني، ودعم مراكز البحث العلمي، وتشجيع المبدعين والمبتكرين وتبنيهم، يمكن أن يؤسس لقاعدة صلبة من المعرفة التي تقوم عليها الصناعات الحديثة من أساسيات مصادر تنويع الدخل، والاهتمام بالعنصر البشري كي يسهم في دعم التنمية والتطوير والإبداع والتجديد في قطاع الأعمال والمنشآت الصناعية. وأوضح أن الاستثمار الأمثل في التعليم قادر على نقل المملكة إلى مرحلة متقدمة من الصناعات التقنية، شرط أن يكون ذلك وفق استراتيجية محكمة. وذكر أن بناء قطاعات الإنتاج والتوسع فيها يفترض أن يكون من الأهداف الاستراتيجية، ما دامت الصناعة الخيار الاستراتيجي للمملكة، وزاد أن التوسع النوعي في الصناعات التحويلية يحقق قيمة مضافة للاقتصاد، ويساعد في إكمال سلسة المنتجات محلياً. واعتبر ذلك كله من الحلول الاستراتيجية لتنويع مصادر الاقتصاد والاستفادة من الصناعات الأساسية المتاحة، التي تشكل جزءاً مهماً من مقومات النجاح. وخلص البوعينين إلى أن المتفائلين هم من يقودون مجتمعاتهم لتحقيق النجاح، وكلما ارتبط التفاؤل بالحكمة والعمل ومعرفة المقومات المتاحة كان ذلك أدعى للتوصل إلى الأهداف الموضوعة. وأضاف أنه «على رغم موجة التشاؤم السائدة، فإنني أكثر تفاؤلاً بقدرة الحكومة على إحداث التغيير الاقتصادي الذي نطمح إليه جميعاً، خصوصاً مع وجود الملاءة المالية المتمثلة في الاحتياطات، والقدرة الفائقة للمصارف السعودية على توفير السيولة المطلوبة، إضافة إلى كثير من المقومات المهمة التي تضمن توفير القاعدة الصلبة للنجاح وتجاوز الأزمة الطارئة. وأجزم بأن الظروف الحالية قرعت جرس التنبيه، وكل ما أرجوه أن تبدأ الحكومة بمعالجة مشكلات الاقتصاد، وإعادة بنائه على أسس متينة منفصلة عن النفط وإيراداته المتغيرة». «عضو شورى»: أسعار النفط ستعود للثبات قال عضو مجلس الشورى الخبير النفطي السعودي الدكتور فهد الجمعة إن الوضع الراهن يستحق دعم الحصة السوقية لأوبك بقيادة المملكة، كون السياسات السابقة المعتمدة على خفض الإنتاج لرفع الأسعار لم تعد ذات جدوى، إذ شجع السعر المرتفع دولاً من خارج منظومة أوبك على رفع سقف إنتاجها، لأن كلفة الإنتاج أصبحت مجدية. ورأى الجمعة أن السياسة الحالية للمملكة صحيحة، وستعود الأسعار للثبات حين يتقارب مستويا العرض والطلب. وأضاف: «لا يمكن خفض الإنتاج لحماية الأسعار. أي كلام بهذه الطريقة يعتبر ذا نظرة قاصرة، وليس أمام أوبك حالياً سوى زيادة الإنتاج، والمحافظة على حصتها من الإنتاج». وحول الفترة التي ستأخذها تقلبات أسعار النفط، توقع الجمعة أن تستمر من عامين إلى ثلاثة أعوام، ثم ستعاود الارتفاع والثبات، مؤكداً أن المطلب الواقعي والناجح أن تثبت الأسعار على مستوى يقل عن 80 دولاراً. وزاد: «أوبك أخطأت سابقاً عندما رفعت الأسعار فوق 100 دولار، والجيد أن تكون بين 75 و80 دولاراً مع زيادة الإنتاج، وهذا سعر عادل يضمن الاستمرار ولا يشجع على البدائل، ويتيح التحكم في الإنتاج والمناورة». وعن زيادة إنتاج إيران من النفط بحسب التوقعات، أكد الجمعة أنه لن يؤثر، خصوصاً مع وجود الأسعار حول منطقة القاع نحو 40 دولاراً، وأضاف: «لن تؤثر الزيادة الإيرانية، ولكن لو استمر سعر النفط فترة طويلة عند هذه الأسعار، فستفلس بعض الشركات الأميركية، ولكن لا نتوقع له الاستمرار». وزاد: «يعتمد النفط على أسعار العقود، ولا يعتمد على السعر العادي والفعلي، بل يتم الاعتماد على السعر المستقبلي، وهو ما يؤثر في المضاربين». وأضاف: «أرى كل الكلام حول خفض الإنتاج لا معنى له، إلا إذا قررت كل الدول الخفض، وأن نستمر عند هذه المستويات حتى نصل لنقطة توازن، ويعود السعر للثبات، وستكون هناك آثار على الشركات التي تعمل الآن على تطوير التقنيات لخفض التكاليف، وبدأ الإنتاج الأميركي بالانخفاض، وسيستمر في ذلك بأكثر من 300 ألف برميل العام المقبل، كما سينخفض إنتاج النفط الرملي في كندا». المتشائمون وراء زيادة القلق وأكد الجمعة أن سياسة أوبك ليست ضد النفط الصخري، لكنها تهدف إلى المحافظة على سياساتها في المستقبل، خصوصاً أن أي خفض قد يطرأ سيوجد دول خارج أوبك مستعدة لتغطيته. وأشار إلى أن المتشائمين حالياً، وحال القلق التي أصابت السوق المالية أحد أسبابها النظر لأسعار النفط والتوقعات في شأن الموازنة المقبلة. وزاد: «انخفاض الموازنة أمر طبيعي يحدث في كل الدول، وحدث في المملكة سابقاً». تقارير وسوء فهم وإشاعات قال الاقتصادي محمد العتيبي إن سوق الأسهم تعيش حالاً تراتبية سبق أن عاشها في عام 2006 ثم 2008 و2009 على التوالي، «تبدأ المسألة بتقارير خارجية يتم التعامل معها من جانب بعض المحللين بسوء فهم ثم تنتشر الإشاعات، وتخلق حالاً من القلق، ثم تندفع عمليات البيوع، إلا أن أسوأها هو عمليات بيع أسهم التسهيلات التي تضرّ بالسوق، والمستفيد منها المصارف فقط». وأضاف: «المخاوف حيال أسعار النفط، وعجز الموازنة والأحداث الجيوسياسية اجتمعت لتسبب الانخفاضات الحالية، ومع الأسف في سوق مثل السوق السعودية يسيطر الأفراد على نسبة تتجاوز 90 في المئة من تعاملاتها، وهناك مصارف تقسو على عملائها من ذوي التسهيلات، وتنتظر أي هبوط ليتخلصوا من أسهمهم فتضعهم على حافة الإفلاس، طبيعي أن تصل السوق إلى هذه الحال». واعتبر العتيبي أن الوضع في شأن النفط لا يستدعي كل هذا القلق، وفي ما يخص عجز الموازنة، قال: «حين أعلن محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي أن العجز سيتجاوز ما هو معلن، فهذه شفافية كنا نطالب بها وتحققت، ولكن مع الأسف حين تحققت زاد القلق، وطالما أعلن المسؤول ذلك بنفسه، فإن الحكومة تدرك الوضع الراهن بشكل جيد، ولا نرى أن التعامل يجب أن يكون بهذه الطريقة، ولا بد من الإيمان بأن المسؤولين الذين تعاملوا مع أزمات سابقة سيتعاملون مع هذه الأزمة كما يجب، ولا مانع أن يخرج المسؤولون اليوم لتقديم مزيد من الإيضاحات حول رؤية الحكومة للأحداث الراهنة، والتصريح الصادر الأسبوع الماضي عن عدم بيع الحكومة أسهمها لم ينعكس على السوق، ولكن الأمور ستعاود الهدوء خلال الأيام المقبلة».