«في ساحة منسية خربة، وسط مدينة ما، في بلد يسمى نيجيريا، ثمة عدد من الرجال، متبايني الأعمار، نصف عراة، ممددين على الأرض بأوامر من بعض الجنود الذين يلبسون بزات عسكرية، وفي أيديهم بنادق مهددة مصوّبة نحو الجمع الممدد. أحد الجنود يصرخ بجنون، يقترب من أحد الممددين على الأرض، يصوّب البندقية نحو ظهره جهة القلب. يضغط على الزناد. ينتفض الجسد قليلاً ثم يهمد الى الأبد، فيما يسيل خيط الدم ساخراً من قصة الموت المعلن هذه». ما سبق ليس مقطع من سيناريو سينمائي أو تلفزيوني، وليس توصيفاً لمشهد مسرحي، بل هو ترجمة أمينة لصور «حصرية» ظهرت على إحدى القنوات الفضائية («الجزيرة») تروي، بلسان الفضيحة والعار، حدثاً «واضحاً كطلقة مسدس» وفق تعبير الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين. لا مجال للتخمين والاحتمالات. جندي أرعن، أزعر يقتل رجلاً بريئاً، مستسلماً في وضح النهار، ونسمع الخبر: «كان نحو ألف شخص قد قتلوا الصيف الماضي في مواجهات وقعت بين الشرطة والقوات النيجيرية وجماعة «بوكو حرام» التي تنشط في الولايات الشمالية من البلاد». ومشهد القتل ذاك كان جزءاً من مجزرة تحصل عادة في الأقبية والأوكار السرية، فالجلاد يحتاط للمفاجآت غير السارة، ومثلما هو بارع في التصويب والقتل بدم بارد، فإنه حريص كذلك على ألا يرى أحد ما يقترف من جرائم، فكيف نجت هذه الصور؟ ومن الذي صورها من زاوية مناسبة؟ والى أي حد يحق للتلفزيون أن يعرض صوراً تدين البشر، وتشكّك في آدميتهم؟ أسئلة كثيرة تنتاب المرء وهو يرى ذلك المشهد الدامي القصير، فكيف لم تسقط الكاميرا من يد المصور هلعاً؟ كيف استطاع ان يضبط أعصابه وهو يوثق بعدسته حدثاً ينتهك جميع الأعراف والقوانين، أم ان المصور، بدوره، كان جزءاً من سيناريو الموت المرتب؟! الفضائيات تعرض صوراً كثيرة لجرحى وقتلى جراء كوارث طبيعية أو مجازر بشرية، وتعرض صوراً لأشخاص يحتضرون. لكن تلك البرهة التي تقتنص فيها الارواح برصاص بندقية، تبقى لحظة نادرة يصعب أن تشهد عليها الكاميرا. وإذا سمعنا ان ثلاثين شخصاً أو أربعين قضوا في حادث ما، فذلك، على قسوته، غدا أمراً مألوفاً في هذا الزمن الفضائي. لكن «اللحظة القاتلة» تبقى نادرة على الشاشات، وستظل تثير في النفوس مشاعر الغضب والخذلان والألم، لدرجة ينبغي فيها أن نعيد النظر الى تعابيرنا من مثل «سرير الموت»، ليكون «رصيف الموت» أو «ميادين الموت» المفتوحة أمام فضول المصورين. تلك، إذاً، صورة «المدنية الحديثة». صورة عصر الحريات، التي تصوغها الفضائيات نقلاً فحسب. أما المجرم، بطل الحدث(!) فالأرجح انه لا يخجل من إراقة الدماء على هذا النحو الفاجع أمام أعين العالم.