لبنان في المرتبة العاشرة في المنطقة العربية ويحتلّ المرتبة الرابعة والتسعين عالمياً في مؤشر التقاعد العالمي لهذا العام! نتيجة كارثية من دون شك يمكن أن تُسقط حكومة ومسؤولين كثراً في بلد آخر يكون فيه المواطنون قادرين على محاسبة صنّاع القرار. فالتقاعد يعني الشعب كلّه من دون إستثناء والمسّ به خطّ أحمر. لكن في لبنان يمرّ هذا الخبر مرور الكرام، فقد إعتاد اللبنانيون على أن يحتلّ بلدهم مراتب متدنية في مختلف المؤشرات العالمية مثل مؤشر الفساد على سبيل المثال. لكن حجم الكارثة لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل أنّ التقرير الذي اصدرته شركة «ناتيكسيس» حول التقاعد في العالم أظهر أنّ لبنان سجّل نتيجة متدنّية بنسبة 34 في المئة على صعيد مؤشر نوعية الحياة بعد التقاعد، وهو أدنى معدّل في المنطقة. فأي أسباب تكمن وراء هذا الواقع السيىء الذي يحرم اللبنانيين من معيشة لائقة بعد التقاعد؟ لا نظام يمكن تلخيص المشكلة الرئيسة بأربع كلمات لا غير: عدم وجود نظام تقاعد. فإذا كان لبنان يُقوّم ضمن مؤشر التقاعد العالمي، فذلك ليس بحسب نظام التقاعد الذي يطبّق فيه ويشمل التقديمات المالية، الصحية والإجتماعية. إذ أنّ سياسة الحماية الإجتماعية في لبنان ترتكز على قانون الضمان الإجتماعي الذي وضع في العام 1963 ويشمل فرع تعويضات نهاية الخدمة. وبالتالي فإنّ نظام الشيخوخة الذي يؤمّن للعامل معيشة لائقة بعد التقاعد غائب. فإما يكون الشخص موظفاً في القطاع العام، ويكون معاش التقاعد نتيجة المحسومات التقاعدية التي تقتطعها الدولة من الرواتب خلال الخدمة، وتوضع في خزينة الدولة كوديعة لحساب تقاعد الموظف في إنتظار انشاء صندوق خاص للتقاعد الذي لم يبصر النور حتّى اليوم. وما يحدث بالنسبة لموظفي القطاع العام أنّهم لا يمكن أن يحصلوا على مبلغ التقاعد كاملاً بل تدفع وزارة المال للمتقاعد من الفائدة المبلغ الذي وضعته لديها. وبعد وفاة المتقاعد والمستفيدين من المعاش أي الزوجة والأولاد تبقى الوديعة لدى الدولة. أما بالنسبة لموظفي القطاع الخاص المنتسبين إلى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، فيحصلون عند بلوغهم سن التقاعد على تعويض نهاية الخدمة وهو عبارة عن مبلغ مقطوع يعادل تقريباً قيمة راتب شهر واحد عن كل سنة خدمة. وذلك يراوح حالياً بمعدّل ما بين 15 و20 ألف دولار بحسب الراتب الذي يتقاضاه الموظف. ويخسر متقاعدو القطاع الخاص التغطية الصحية بسبب توقف مساهمة أرباب العمل في تكاليف نظام الضمان الصحي. وبالنسبة لمن هو خارج القطاع المنظّم أو العامل الحرّ، فلا تعويض أو حماية صحية من أي نوع. كما تجدر الاشارة إلى أنّ حتّى الأطباء والمهندسين الذين يعتبرون من أصحاب الدخل المرتفع نسبياً مقارنة بغيرهم من أصحاب المهن الحرة، يخوضون أيضاً معاركهم الخاصة لزيادة المعاش التقاعدي الذي يبلغ حالياً مليون ليرة للأطباء (نحو 665 دولاراً). مبالغ زهيدة ربما يبدو حصول موظف القطاع العام على راتب شهري أو موظف القطاع الخاص على تعويضه عند نهاية الخدمة أمراً مقبولاً في حال كان المبلغ الذي يتلقاه كافياً لعيش حياة لائقة. لكن ما يتناساه المسؤولون أنّ هموم الحياة تزيد بعد التقاعد وأنّ الراتب الذي كان متدنّياً في الأصل للموظفين العاديين، لن يكون أبداً كافياً لتأمين لقمة العيش والطبابة وأمور أساسية أخرى في حال لم تؤمّن الحاجات من خلال قانون ضمان الشيخوخة الذي يُعتبر مطلباً أزلياً في لبنان مع تأجيله المستمر وربطه بالظروف المتلاحقة. فكما يخبر إيليا ماضي الذي عمل لمدة 38 عاماً مترجماً في إحدى الشركات، إنّ تعويضه كعامل ضمن القطاع الخاص بلغ 24 ألف دولار. وقد حاول قدر الإمكان أن يحافظ على هذا المبلغ من خلال إيداعه في مصرف لينفق منه طيلة حياته مع زوجته وإبنته. لكن ما لم يتوقعه إيليا أنّ هذا المبلغ زهيد جداً مقارنة بالمبالغ الطائلة التي كان يجب أن يدفعها خصوصاً مع توقّف إشتراكه في الضمان الإجتماعي، وعدم قدرته على إدخال زوجته إلى المستشفى على حساب وزارة الصحة، حيث أنفق على حالة مرضية واحدة أكثر من 3 آلاف دولار. واليوم يجد إيليا نفسه بعد 7 سنوات من تقاعده فقط خالي الوفاض وغير قادر على الإشتراك ببرنامج تأمين صحّي أو تسديد الإيجار الشهري لمنزله وتأمين الحاجات الرئيسة الأخرى. أما من يرغب في إستثمار تعويضه، فلا بدّ أن يحسب حساب الخسارة أيضاً ويتحمّل كلفة مشروع تتجاوز في معظم الحالات ما حصل عليه من تعويض. وأمام هذا الوضع الصعب الذي يعيشه المتقاعدون، إلا من كان محظوظاً براتب عالٍ مصرّح عنه كله لصندوق الضمان الإجتماعي من قبل المؤسسة التي يعمل فيها، ترى المحامية نائلة جعجع من الجمعية الإقتصادية اللبنانية أنّ لدى لبنان واجبات وإلتزامات دولية لجهة تكريس الحق في الحماية الإجتماعية وتفعيله عموماً ونظام الشيخوخة خصوصاً لتوفير الحياة الكريمة للبنانيين والمتقاعدين تحديداً. ومن الناحية القانونية، تلفت جعجع إلى أنّه فيما خلا أحكام قانون الضمان الإجتماعي وبنوده، تخلو التشريعات الحالية في لبنان من أي أحكام تتعلّق بالحق في الحماية الإجتماعية والتقاعد. لذا، أعدّ مشروع قانون يقضي بتعديل أحكام قانون الضمان الإجتماعي وإنشاء نظام التقاعد والحماية الإجتماعية. ومن أبرز الإصلاحات التي يقترحها هذا المشروع إنشاء نظام للتقاعد والحماية الإجتماعية، ليحلّ مكان نظام تعويض الخدمة، وهو يوفر التقديمات التالية: معاش التقاعد، معاش العجز، معاش خلفاء المضمون إضافة إلى تقديمات ضمن المرض والأمومة. وعلى رغم أنّ هذا المشروع يقدّم إصلاحات أساسية على مستوى سياسة الحماية الإجتماعية وضمان الشيخوخة، لا يزال يُشبع درساً ويؤجل في شكل مستمر ما يزيد من المشكلات المالية، الصحية والإجتماعية التي يعاني منها المتقاعدون.