تشير أحداث النفط العالمية إلى حقيقة أن الصناعة النفطية العالمية ومؤسسات المال المرتبطة بها تتصّف بعدم المثالية والتوازن الهيكلي، ما أدّى إلى ظهور مأزق رئيس «غير جيولوجي» يتمثّل في فشل آليات سوق النفط في تصحيح العجز بين العرض والطلب واستقرار أسعار النفط العالميّة. وتوجد جملة أسباب وعناصر مترابطة أدت إلى ظهور مآزق دوريّة منها: ازدياد استيراد الولاياتالمتحدة من النفط بين 1985 – 2004 بنحو ثلاث أضعاف وانخفاض معدل النمو السنوي لاستيرادها إلى النصف بدءاً من عام 2000. وخلال الفترة ذاتها أ تحوّلت الصين من مصدّر للنفط إلى مستورد عالمي كبير له بمعدل نمو سنوي يقارب 23 في المئة (معدل النمو السنوي لاستهلاكها من الطاقة 16 في المئة مقارنة بثلاثة في المئة النمو العالمي). إضافةً إلى تصاعد النمو الاقتصادي لآسيا (الصين، الهند، اليابان) وأثره الكبير الحالي والمستقبلي على سوق النفط العالمية والأسعار، بحيث تتوقّع مؤسسات بحوث استمرار حصول زيادات جوهرية في وتائر الطلب العالمي على النفط والغاز على رغم تحقق ارتفاع في مستوى كفاءة استخدام الطاقة. ويتوقع أن تُعظّم زيادة وتائر الاستهلاك المستقبلي للنفط في الدول المستوردة الكبيرة، من القوة التفاوضيّة للدول المصدّرة للنفط ذات الاحتياطات الكبيرة والطاقة الاستخراجيّة العالية. أما بالنسبة إلى الدول الغربية والآسيوية الكبيرة فتعتبر قيمة ضمان تدفق التجهيزات النفطية والغازية لها أعلى من قيمة أسعارها في الأسواق العالمية. في ضوء هذه الحقائق وغيرها، تسعى الدول المستوردة الكبيرة (الصين، الهند، روسيا، اليابان...) إلى إبطال عبء تأثير الأسعار المستقبلية من طريق تطوير علاقات اقتصادية ثنائية مع الدول المصدّرة (مقايضة/ تجارة متقابلة) تتضمّن الاستثمار والتجارة في السلع الصناعية ومنها صناعة السلاح. ويعتبر الاتفاق الذي جرى بين الصين وإيران خريف 2004 نقلة نوعيّة في هيكل تجارة النفط العالمية بحيث يتضمّن اتفاقات في مجال النفط والغاز والناقلات والاستثمارات الصناعية وغيرها تتراوح قيمتها الإجمالية بين 200 – 400 مليون دولار على مدى 25 سنة. وفي مجال صناعة النفط تموّل شركة النفط الوطنية الصينية مراحل الاستكشاف وتنمية الحقول والبنية التحتية ذات العلاقة وبناء الناقلات وتطويرها. وعلى غرارها، عقدت إيران اتفاقاً مشابهاً مع الهند بقيمة أدنى من اتفاقها مع الصين. يستند هذا النوع من الاتفاقات الى تكليف المؤسسات العامة المملوكة للدول المستوردة والمصدرة بتطوير المصالح الاستراتيجية الوطنية. فالدول المستوردة للنفط تقدم أموالاً بتكلفة منخفضة (عائد رأس المال) إلى مؤسساتها النفطية لحفزها على اعتماد صيغ استراتيجية تنافسية وأخذ الأخطار في مجال استثمارات النفط والغاز في الدول المنتجة والمصدّرة لهما. ويتيح هذا النوع من الاتفاقات لحكومات الدول المصدرة للنفط، الحصول على التمويل اللازم بمعدلات فائدة منخفضة وبصيغ أفضل عما تعرضه شركات النفط الغربية الخاصة المحكومة بقواعد أسواق المال العالمية. كما يحقق هذا النموذج أيضاً إلى الدول المصدرة للنفط، نجاحات سياسية وفوائد اقتصادية أخرى إلى جانب تأمين الاستثمارات اللازمة لتطوير صناعتها النفطية وضمان الأسواق إلى منتجاتها في المدى المتوسط والبعيد. لقد غيّرت الاتفاقات النفطية ذات الأمد الطويل قواعد اللعبة فمكّنت الدول المستوردة للنفط والغاز من تحقيق التوازن التجاري الثنائي مع الدول المصدرة لها، من طريق عوائد التمويل والصادرات الصناعية وصفقات السلاح وغيرها من السلع والخدمات. وأدت العلاقة الوثيقة بين حكومات الدول المستوردة والمصدّرة من خلال شركاتها النفطية الوطنية إلى تنمية المصالح الاستراتيجية في أسواق الطاقة العالمية. وحققت الصفقات الثنائية الطويلة الأجل للدول المستوردة معدل تكاليف للطاقة (النفط والغاز) أقل من الدول المستوردة الأخرى التي تحصل على احتياجاتها النفطية والغازية من الأسواق العالمية. والولاياتالمتحدة الأميركية وغيرها من الدول الكبرى تسعى إلى تنمية علاقاتها الثنائية خارج منظمة التجارة العالمية ومنظمة التجارة الحرّة لوسط أميركا CAFTA، بحيث وقّعت اتفاقات مع معظم دول منظمة التعاون الخليجي GCC. ومن الأسباب الرئيسة التي تدفع أميركا إلى الهيمنة على الاحتياطات النفطية الكبيرة خارج حدودها، بخاصة في منطقة الشرق الأوسط، التصدّي لفرنسا وألمانيا وروسيا والصين واليابان والهند لمنعها من أن تجعل منطقة الشرق الأوسط مجالاً حيوياً وشرعياً لمصالحها النفطيّة. إلا أن التقارب الاستراتيجي بين المصالح الروسية والأوروبية والصين قد يعمل على منع أميركا من إحكام السيطرة على سياسات النفط في الشرق الأوسط (ليس من مصلحة هذه الدول بقاء أميركا في العراق). أما بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة فتعتبر الهيمنة ضرورة استراتيجية اقتصادية نظراً إلى الضعف النسبي لقوتها الاقتصادية الحقيقية مقارنة بقوتها العسكرية الأعظم في العالم. فالاقتصاد الأميركي يعاني عجزاً كبيراً دائماً ويحتاج في استمرار إلى تدفق الأموال الأجنبية. إضافة لذلك، فضلاً عن أن أميركا فشلت في إنجاح برامجها في خفض استهلاكها النفط ورفع كفاءة استخدامه لإحداث تغيّر نوعي في مستوى معيشة مواطنيها. أي أن أميركا تعاني من قصور كفاءتها في استهلاك الطاقة (بخاصة النفط) مقارنة بأوروبا واليابان ودول أوروبية أخرى ما جعل اقتصادها عاجزاً عن دفع فاتورة وارداتها النفطية بعملة أخرى غير الدولار. لذلك كلّه نرى أن أميركا تحاول جاهدة إبقاء هيمنتها على نفط الشرق الأوسط من أجل التحكّم بكمياته المتاحة الآن ومستقبلاً وبأسعاره في الأسواق العالمية. ويعتبر احتلال الولاياتالمتحدة للعراق أحد الروافد الرئيسة لتغذية استراتيجية الولاياتالمتحدة الأميركية في السيطرة على نفط الشرق الأوسط وإبقاء تجارة النفط العالمية تتم بالدولار. إن الهيكل الجديد لتجارة النفط العالمية قد يؤدي إلى بلورة أخطار سياسية واقتصادية لأميركا تتمثّل في ظهور قوى وكتل اقتصادية منافسة لها على نفط الشرق الأوسط. * خبير اقتصادي