منذ أشهر عدة ولأشهر عدة ابتدأ وسيستمر المعرض التكريمي لمعلم التجريد الغنائي اللبناني الأول الراحل شفيق عبود (قد يختتم في آذار (مارس) 2010). هو الذي جهدت لتقديمه بحلة قشيبة من الطباعة والسينوغرافيا «مؤسسة كلود لومان» في العاصمة الفرنسية، وهي ملحقة بالغاليري المعروفة باسم مديرها اللبناني الفرنسي في حي المونبارناس، وهي قاعة حديثة مغلقة للعموم (بعكس الغاليري)، لأنها لا تفتح من طريق الجرس الخاص إلا بموعد مسبق. هو معرض استعادي بالغ العناية لأنه يمثل مختارات من تراث عبود المقتناة من أصحاب مجموعات موزعين في أوروبا، وهو ما يفسّر عنوان المعرض الموسوعي: «شفيق عبود في المجموعات الأوروبية الخاصة»، تغطي إنتاجه الفني ما بين عام 1959 (أي بداية التعرف الى لوحاته بمناسبة عرضه في «بينالي باريس» الأول). هي ثلاثية بعنوان الفصول الأربعة (يبلغ ارتفاع كل لوحة فيها 130 سنتيمتراً)، وينتهي تأريخ التوقيع بلوحة يملكها لوماند نفسه كانت عرضت في صالون «الواقعيات الجديدة» في القصر الكبير عام 2003. وتعتبر آخر لوحة موقعة بيده قبل أن تصاب بالشلل ويتوقف عبود عن الرسم بسبب وهنه واكتئابه، قبل أن يفارقنا في نهاية ذلك العام. تعانق جدران العرض عشرون لوحة، نصف العدد من القطع الكبير، منفذة بالألوان الزيتية أو الأكريليك على قماش، وبعض من اللوحات الصغيرة منجزة بالتامبيرا على الكرتون أو الصفائح الخشبية، كما يشتمل المعرض على تحفتين نادرتين من السيراميك. هو ما يعني أن المعرض ليس تسويقياً وإنما تكريمياً لأن اللوحات غير معروضة للبيع، وهو ما يكشف حميمية العلاقة بين مدير المؤسسة كلود لومان وشفيق عبود، اختص في السنوات الأخيرة بعرض أعماله وتسويقها وطبع كتاب بالغ العناية عن مسيرته عام 2005، وكان عبود قبل التزامه بهذه الصالة يعرض ما بين غاليري بروتي (الخاصة بالتجريد الغنائي) في باريس وصالة ربيز في بيروت. كان لومان قد بدأ بتوثيق أعمال عبود، أخرج من غبار زمانها ما يقرب من مئتين وخمسين لوحة، عرض منها قبل وفاة عبود بأشهر عدة مئة وستة تحت عنوان «الأعمال الصغيرة»، في الغاليري، وأقام له ولأصدقائه بهذه المناسبة سهرة. وعندما اختطفه الموت بعد أشهر ألقى لومان في حفل تأبينه كلمة في حديقة مانسوري. يكشف خطاب لومان في حينه ما يملكه هذا الفنان من عمق علاقاته الإنسانية والأخلاقية بالآخر. تتحالف مواصفاته التربوية مع رهافته اللونية لتكشف شدة تأثيره في المحترف اللبناني، فهو المؤسس الأول للتيار التجريدي الغنائي، القائم على التوليف بين مدرسة باريس (وتأثيرات بونار) والحساسية اللونية المتوسطية في المحترف اللبناني. وقد تضاعف تأثيره بسبب انتظام عروضه في بيروت (غاليري ربيز) آملاً دوماً العودة من الشتات والاغتراب إلى بلده الأصلي، يعترف لي ذات مرة بأنه و «منذ ستين عاماً يؤمل نفسه كل سنة بالعودة إلى بيروت»، وهكذا هرب العمر ولم يحقق حلمه. ولكن أسلوبه استمر من خلال عدد من التجريديين الشباب ليس في لبنان فقط وإنما أيضاً في باريس من خلال مسؤوليته ودالته في قيادة «صالون الواقعيات الجديدة» إلى جانب جاك نالار ومحمد اكسوح. هو الصالون التجريدي الغنائي الأول بسبب تأسيسه منذ عام 1945 والأبرز بسبب استمراره حتى اليوم. عرفنا من خلاله وبتأثير عبود عدداً من الأسماء الشابة التجريدية اللامعة ابتداء من إيلي بورجيله وانتهاء بجورج نورة وهنيبعل السروجي وعشرات غيرهم، من دون أن ننسى أن عبود يعتبر الأقدم في قدومه إلى باريس منذ عام 1947. وهو ما يفسر رعايته لشباب التجريد اللبناني في باريس. لا شك في أن أصالة عبود تستحق اليوم هذا التكريم، مقارنة بتقصير المؤسسات الفنية الرسمية تجاهه، ما عدا صالون «الواقعيات الجديدة» المذكور الذي كرمه عام 2005، بمناسبة ذكرى غيابه.