مرت الاستراتيجية الإيرانية منذ العام 1979 في ثلاث مراحل: الأولى شهدت الصدام مع العراق في حرب استمرت نحو 8 سنوات، والثانية امتدت من العام 1990 وحتى العام 2001، وانكفأت فيها إيران إلى إعادة بناء قدراتها الذاتية الاقتصادية والعسكرية بصمت وبعيداً من الأعين لا سيما في ما يتعلق بقدراتها الصاروخية البالستيّة والنووية في وقت انشغل العالم بالغزو العراقي للكويت ثمّ بالحروب الأميركية ضدّ بغداد. أمّا المرحلة الثالثة فقد بدأت في 2001-2003 وتستمر حتى اليوم، وفيها انتقلت إيران من مرحلة إعادة بناء قدراتها إلى مرحلة استغلال ما بنته في توسيع قاعدة طموحاتها في المنطقة العربية سواء المباشرة من العراق إلى اليمن مروراً بسورية ولبنان وفلسطين ودول الخليج العربية، أو غير المباشرة وصولاً إلى السودان والمغرب وغيرها من الدول العربية. وتتميز هذه المرحلة ب: انهيار البوابة الشرقيّة للعرب مع احتلال العراق الذي كان يشكّل سدّاً في وجه النفوذ الإيراني إلى الخليج وبقية الدول العربية، وانتقال إيران من العمل السري إلى العمل العلني المترافق مع إعلانها الواضح والصريح في أكثر من مناسبة عن طموحاتها الإقليمية. تطوير قدراتها العسكرية الهجومية الصاروخية والقدرات غير التقليدية والنووية تحت مسميات دفاعية، مع انتهاجها سياسة خارجية هجومية، ما يعني أنّ المنحى الدفاعي لقدراتها العسكرية يستخدم لتعزيز قدرتها على التدخل في الشؤون الداخلية للدول المحيطة. العمل على زعزعة أمن واستقرار الدول العربية عبر استخدام وسائل غير تقليدية تقوم على إقامة تحالفات مع أقليات مذهبية أو سياسية داخل كل دولة، والانتقال من الحديث المبطّن عن أحقية النفوذ الإيراني في الخليج العربي إلى التدخل المباشر في العراق ودول مجلس التعاون الخليجي. مظاهر الإخلال الإيراني بالتوازن الاستراتيجي في الخليج من الملاحظ، أنّ التوازن الاستراتيجي في الخليج بدأ يتزعزع في المرحلة الثالثة للاستراتيجية الإيرانية خصوصاً بعد سقوط العراق. وترافق تعاظم القدرات العسكرية الإيرانية مع غياب سياسة واضحة وشفافة لطمأنة دول الجوار. وعلى رغم انّه يحلو لبعض المحللين من العرب القول بأنّ أميركا وإسرائيل تعملان على التحريض ضد إيران باعتبارها تخلق تهديداً مصطنعاً لدول الخليج العربية وللدول العربية الأخرى، إلا أن إيران نفسها لم تقم بأي جهد يذكر لإثبات نواياها السلمية وطمأنة الجيران، بل على العكس أمعنت طهران في إثبات نظرية أنها تشكل خطراً على الدول العربية والخليجية تحديداً. ومن مظاهر تنامي القدرات العسكرية الهجومية لإيران: 1- تعزيز القدرات الهجومية الصاروخية: بذلت إيران جهوداً ضخمة وجبارة منذ الحرب العراقية - الإيرانية في ما يتعلق بتطوير قدراتها الصاروخيّة البالستية والتكنولوجيا المتعلقة بها وذلك بدعم من دول مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا، حتى باتت تمتلك اليوم القدرة على تطوير برنامجها الصاروخي الخاص في شكل مستقل وبما يتناسب مع طموحاتها التوسعيّة المعروفة وسلوكها للهيمنة على المنطقة. ويشير العديد من المصادر إلى توجه لدى الإيرانيين بتطوير صواريخ شهاب - 5 وشهاب - 6 أيضاً وأن لم يتم تأكيد ذلك فعلياً. وتكمن مخاطر هذه الصواريخ في أنها قادرة على ضرب أي بقعة في شبه الجزيرة العربية، ولا يقتصر التهديد الإيراني باستهداف القواعد الأميركية في الخليج في حال نشوب نزاع أميركي - إيراني أو إيراني - إسرائيلي، وإنما يتعداه إلى إمكانية استهدافها للمنشآت الحيوية والاستراتيجية الخليجية النفطية الاقتصادية والسكانية. 2- البرنامج النووي: من حيث المبدأ للدول الحق في تطوير قدرات نووية للاستخدامات السلمية طالما أنّها ملتزمة المعاهدات والمواثيق الدولية. في التفاصيل، لم تثبت التجربة الإيرانية أنها شفّافة وأن غرضها تحقيق قدرات نووية سلمية بدءاً من إخفاء الموضوع النووي برمته حتى فوجئ العالم في العام 2003 بأن إيران تعمل سراً على تطوير برنامجها النووي، مروراً باكتشاف حلقات التعامل مع السوق السوداء النووية إلى بناء وتجهيز منشآت سرية إلى المراوغة التفاوضية، وليس أخيراً إلى التسريب الذي كشف بتاريخ 6/11/2009 أن العلماء الإيرانيين قد يكونون اختبروا تقنية تعرف باسم «نظام التفجير الضمني المزدوج» التي تسمح عند إتقانها، بإنتاج رؤوس حربية نووية أصغر حجماً وأكثر بساطة من النماذج القديمة، كما أنها تحدّ من قطر الرؤوس النووية وتسهّل تحميل رأس نووي على صاروخ. أضف إلى ذلك أن الطموح النووي الإيراني ارتبط في شكل غير مفهوم مع مطالبات إيرانية متكررة بالاعتراف بها كقوة إقليمية شرعية لها حقوقها ومصالحها، فما العلاقة بين النووي السلمي والطموح الإقليمي؟ وهذا مؤشر آخر على عدم سلمية التوجه النووي الإيراني. لا شك في أن حصول إيران على سلاح نووي سيطيح في شكل كامل بالتوازن الاستراتيجي الإقليمي في الخليج الذي تعمل إيران على زعزعته في شكل دائم وحثيث منذ احتلال العراق في العام 2003، ويمكن تحديد مخاطر وتداعيات تحول إيران الى قوة نووية على دول الخليج العربية بما يلي: تقويض معاهدة منع الانتشار النووي (NPT)، وتسريع التوجّه لدى العديد من دول المنطقة لامتلاك سلاح نووي خاص بها بما في ذلك دول الخليج العربية، وبالتالي إطلاق سباق تسلّح نووي في الخليج والشرق الأوسط، مع ما يفرضه ذلك من استنزاف مالي ومخاطر عسكرية وبيئية من إمكانية اندلاع حرب نووية في ظل الطموحات الإقليمية الكبيرة والوضع غير المستقر في المنطقة والقابل للانفجار في أي وقت. رفع قدرة الابتزاز (Blackmailing Ability) التي تملكها إيران تجاه دول الخليج العربية، في ظل قدرتها الدائمة على التهديد بقوتها النووية أو حتى استخدام القوّة في فرض أجندتها في ظل حيازتها رادع نووي يحصّنها من عواقب تصرفاتها ويمنحها القوة على تعزيز سياستها الهجومية والتدخلية. رفع قدرة إيران على قيامها بحروب بالوكالة (Proxy Wars) تهدد أمن دول الخليج العربية للضغط عليها بخصوص الاعتراف بدورها ومصالحها في هذه الدول وفي المنطقة ككل، من دون أن يكون هناك قدرة على مواجهتها أو إجبارها على التراجع أو حتى التفاوض لكونها في مأمن من تحمّل العواقب. رفع قدرة طهران على القيام بعمليات تضليلية (Covert Operations) تتضمن إمكانية تمرير المكوّنات النووية إلى جهات طائفية معينة أو مجموعات سياسية تابعة لها أو خاضعة لنفوذها تدفعها للقيام بهجوم نووي مفاجئ مجهول المصدر وتتمكّن إيران فيه من التهرّب من المسؤولية ومن إمكانية تعرّضها لأي رد نووي مدمّر على أساس أنّها لم تقم بأي هجوم نووي مباشر ولا تعرف من قام بذلك. 3- برنامج الفضاء الإيراني: وضعت إيران في الثاني من آذار (مارس) 2009 أول قمر اصطناعي لها في الفضاء متزامناً مع الذكرى الثلاثين للثورة. وحمل الصاروخ الإيراني الصنع «سفير2» القمر الاصطناعي الصغير والمصنّع محلياً «أوميد» إلى الفضاء ليضعه في مدار منخفض بحيث ينجز 15 دورة حول الأرض خلال 24 ساعة وتجري مراقبته مرتين عبر المحطة الأرضية في كل دورة. وتكمن خطورة برنامج الفضاء الإيراني بالنسبة لدول الخليج العربية في: طابعه العسكري: إذ تشير العديد من المعطيات إلى أن البرنامج يحمل طابعاً عسكرياً، فوزارة الدفاع الإيرانية تلعب دور الراعي والحاضن لبرنامج الفضاء الإيراني، إضافة إلى الحرس الثوري، وهذا يعني أن الجهات الداعمة والممولة والمتحكمة هي جهات عسكرية، وهو ما يلقي بشكوك كبيرة حول الطبيعة المدنية لبرنامج الفضاء، وهو إذا ما صح يعني إمكانية للتجسس على دول الخليج العربية والدول الواقعة في دائرة نفوذها عبر تطوير أقمار اصطناعية تجسسية، وبالتالي فالخطر الإيراني في هذه الحال لا يختلف بأي شكل من الأشكال عن الخطر الذي تفرضه إسرائيل على هذه الدول. ارتباطه بالبرنامج النووي: ذلك أنّ العمل عليه جاء بالتوازي مع التقدم الحاصل في البرنامج النووي للبلاد، ومكمن التخوف هنا أنه في حال صدقت الشكوك التي تذهب إلى القول بأنه إذا كان هدف إيران من البرنامج النووي تصنيع قنابل نووية، فإنها ستكون بحاجة إلى صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل هذه الرؤوس، وهنا يأتي دور البرنامج الفضائي الإيراني حيث يتم تطوير صواريخ بعيدة المدى بحجّة أن الهدف هو استخدامها لنقل أقمار اصطناعية مدنية. ولطالما اعتمدت العديد من الدول على برنامج الفضاء لديها كغطاء لتطوير صواريخ بعيدة المدى، بخاصة أن التكنولوجيا المستعملة في الصواريخ، والتي من شأنها أن تحمل الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء الخارجي لتضعها في مدارها، شبيهة إلى حد ما بالتكنولوجيا المستخدمة في الصواريخ البالستية بعيدة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية. 4- القدرات اللاتناظرية (Asymmetric Capabilities): وهي ذات طابع هجومي تعمل إيران من خلالها على حماية نفسها عبر شبكة عمل خارج حدودها الداخلية وتشمل مستويات عدة منها: تعزيز القدرات اللاتناظرية البحرية (Asymmetric Naval Capabilities): وعلى رغم امتلاك دول الخليج العربية لقدرات بحرية حديثة ومتطورة قياساً بنظيرتها الإيرانية، إلا أن الأخيرة تتفوق في شكل واضح في عدد سفن القتال الرئيسية المدعومة ب3 غواصات، وفي امتلاك القوارب السريعة والقذائف والصواريخ المعدّلة والألغام البحرية والملاحة الجوية والصناعات العسكرية المتعلقة بالهندسة البحرية والإلكترونيات البحرية من أجهزة رادار واتصالات ملاحة ومراقبة وحرب إلكترونية. وتسعى إيران إلى تعزيز تفوقها في الخليج العربي من خلال زيادة قدرتها العسكرية لبسط سلطتها، إذ حددت مياهها الإقليمية في الخليج العربي باثني عشر ميلاً بما في ذلك الجزر، شأنها في ذلك شأن الدول الكبرى التي تتوسع في تحديد هذه المياه ولا تكتفي بالثلاثة أميال التي نص عليها العرف والقانون الدوليين. كما أقامت قاعدة بحرية جديدة شرق مضيق هرمز الاستراتيجي في ميناء «جسك» الإيراني الواقع في بحر عُمان لتعزيز مراقبتها العسكرية لمياه الخليج العربي، في محاولة منها أيضاً لتدشين خط دفاعي جديد شرق المضيق، بحيث يصبح بإمكانها منع دخول أي وحدة بحرية معادية الى المنطقة الاستراتيجية في الخليج العربي إذا اقتضت الضرورة. ومكمن الخطورة هنا، تعزيز التوسع الإيراني في الخليج وتأكيد السيادة على مناطق احتلتها سابقاً كالجزر العربية الثلاث التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة (طنب الكبرى، طنب الصغرى وأبو موسى) إضافة إلى امتلاكها القدرة على إغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي الذي يعبر من خلاله حوالي 40 في المئة من النفط العالمي، أو التحكم فيه ما يعني قدرتها على شل القدرات الاقتصادية لدول الخليج العربية التي تعتمد على المضيق في شكل أساسي لتصدير إنتاجها النفطي. وسيكون باستطاعة إيران مهاجمة أي تعزيزات قادمة من خلال قواعدها العسكرية البحرية المتقدّمة أو حتى استهداف الساحل الشرقي لدول الخليج العربية بأكمله. تعزيز القدرات الاستخباراتية والحرب غير التقليدية: لإيران باع طويل في هذا المجال، وقد أثبتت السنوات القليلة الماضية خلال المرحلة الاستراتيجية الثالثة التي تحدثنا عنها سابقاً، بأن إيران أصبحت تملك جيشاً خارج حدودها في الدول العربية قادر على الدفاع عنها وخوض حروب بالوكالة (Proxy Wars) لمصلحتها حين يقتضي الأمر ذلك. ويتولى الحرس الثوري وأفرعه كقوات القدس إضافة إلى المؤسسات التابعة له والخاضعة مباشرة للمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي الخامنئي الإشراف على تنفيذ السياسة الخاصة بهذا المنحى.