تتمتع الولاياتالمتحدة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة بتفوق لم تحققه أعظم الإمبراطوريات في التاريخ، فمن صناعة الأسلحة والقدرات العسكرية إلى العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، تفرض واشنطن هيمنتها على العالم في شكل لم يسبق له مثيل. وقد دفعها تفوقها خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن إلى أن تعتبر نفسها الضامن للاستقرار العالمي، فأصبحت تتدخل في بؤر الاضطرابات الرئيسية في العالم، بعدما عدّت العالم ككل بعداً حيوياً لأمنها ومصالحها. على هذه الخلفية، يتناول عبادة محمد التامر في كتابه «سياسة الولاياتالمتحدة وإدارة الأزمات الدولية (إيران – العراق – سورية – لبنان نموذجاً)» (صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، المحددات التي تنطلق منها سياسة الولاياتالمتحدة في إدارتها أزمات الشرق الأوسط والعوامل التي تساهم في صوغ هذه السياسة، والأرضية الفكرية والنظرية التي تنطلق منها في إدارة الأزمات الدولية. رأى المؤلف أن ثمة اتجاهين تجاذبا السياسة الخارجية الأميركية. ذهب الأول إلى أن الولاياتالمتحدة هي الحكم على التطورات الداخلية في أنحاء العالم كله، وأن لديها الوصفات الجاهزة لدمقرطة العالم وفق رؤاها. أما الثاني فيرى أن الحل لمشكلات العالم وأزماته يكمن في الهيمنة وفرض الحلول بالقوة. في هذا السياق، تقاسَم سياسةَ الولاياتالمتحدة في إدارة أزمات الشرق الأوسط أسلوبان من المقاربات: المقاربة القائمة على تغليف الغايات والأهداف بغطاء الديبلوماسية الناعمة مدعومة بسياسات استخدام القوة، ومقاربة استخدام لغة القوة والتهديد بها للوصول إلى الأهداف النهائية. وقد اختار المؤلف من أجل توصيف هذه الأزمات عيّنة محددة تعتبر الأبرز في الوقت الراهن، وتتمثّل في إدارة الأزمات العراقيةوالإيرانية والسورية واللبنانية بين السياستين الجمهورية والديموقراطية. تعامل بوش الابن مع الأزمة العراقية على مرحلتين، اتسمت الأولى بقدر من الارتجال الأيديولوجي المثالي وتعزيز مفهوم القوة، فيما لجأت إدارته في المرحلة الثانية إلى محاولة التوفيق بين المثالية والبراغماتية السياسية. أما إدارة اوباما فقد عملت على التوفيق بين المثالية والواقعية والإصرار على انسحاب القوات الأميركية من العراق. في مواجهة أزمة البرنامج النووي الإيراني، كانت خيارات بوش أكثر براغماتية، مع تشدد واضح وتلويح مستمر باللجوء إلى الخيار العسكري، بينما لجأت إدارة اوباما إلى تفعيل الأدوات الديبلوماسية واتباع الضغط السياسي والاقتصادي على إيران. وعاودت إدارة بوش انتهاج مفهوم القوة والتلويح باستخدامها تجاه سورية، وكثّفت سياسة العزل والضغط من دون استراتيجية متكاملة تجاه النظام، في حين قاربت إدارة اوباما الأزمة السورية بالانخراط المشروط مع مسؤولين سوريين في حوارات مكثفة، كما لجأت إلى تشجيع دول إقليمية على إضعاف النظام وحلفائه في إيرانولبنان، من دون الاضطرار إلى استخدام القوة. واستغلت الإدارة الأميركية اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 لتعاود سياسة العزل والضغط تجاه سورية، وما لبثت أن أعادت الاعتبار إلى القوة العسكرية بموافقتها على شن اسرائيل الحرب على لبنان في عام 2006. أما إدارة اوباما فقد عملت على تعزيز التناقضات السياسية بين القوى اللبنانية. من خلال البحث في الخيارات التي اعتمدتها إدارتا بوش الابن واوباما، تبين للمؤلف: أ – أن كلتا الإدارتين انتهجت في شكل عام نظرية الواقعية السياسية في إدارة الأزمات في المنطقة، لكن إدارة بوش اعتمدت على عدد من المفاهيم الأيديولوجية في التعامل مع أزمات المنطقة نتيجة تأثير المحافظين الجدد في إدارته، فتراجعت الأبعاد البراغماتية لمصلحة النظرة الدينية التي ترى أن الولاياتالمتحدة قوة يجب على العالم الخضوع لها وأن هذه القوة مستمدة من رؤية دينية وقومية متعصبة. أما إدارة اوباما فقد أدخلت أساليب أكثر براغماتية في تعامل الولاياتالمتحدة مع أزمات الشرق الأوسط نتيجة تأثير تيار الليبرالية الجديدة الذي يرى أن دور الولاياتالمتحدة يجب أن يتسم بقدر أكبر من المرونة، وأن الأدوات الديبلوماسية قد تكون ذات تأثير أكبر. ب – النيوليبراليون هم على غرار المحافظين الجدد في النظر إلى أهمية القوة في إدارة الأزمات، لكنهم أكثر براغماتية في النظر إلى استخدام القوة، إذ إن القيام بها تحت مظلة المؤسسات الدولية يكسبها قوة وشرعية أكبر. كما أن التدخل لنشر الديموقراطية، في رأيهم، لا يعني إزالة الأنظمة فحسب، بل الاهتمام بما سيحل محلها. بخلاف المحافظين الجدد الذين يرون أن مهمة الولاياتالمتحدة تكمن في إزالة الأنظمة «الشريرة» من دون وضع استراتيجية محددة لإعادة بناء الفراغ الذي سينتج من هذه العملية. ج – على عكس المحافظين الجدد، يدرس النيوليبراليون في شكل أعمق المردود السيئ على الولاياتالمتحدة عندما تتحدى الاتفاقات الدولية، ولذلك يستخدمون الأدوات المختلفة لإيجاد إجماع دولي ولو في حدوده الدنيا. د – يؤمن النيوليبراليون باستخدام «القوة الذكية» أي ذلك المزيج من القوة اللينة والقوة الصارمة لتحقيق أهداف الولاياتالمتحدة. بينما لا يولي المحافظون الجدد كثيراً من الأهمية للقوة اللينة، على الرغم من أنهم يستخدمونها في كثير من الحالات. ه – الجمهوريون والديموقراطيون يعتمدون الواقعية السياسية كإطار عام لنظريتهم في إدارة الأزمات عموماً وإدارة أزمات الشرق الأوسط خصوصاً، بينما يزداد تأثير نمط التفكير البراغماتي لدى النيوليبراليين مقارنة بالمحافظين. في صورة عامة، يمكن القول إن الممارسة السياسية في إدارة الأزمات تستند عند الجمهوريين إلى «الواقعية المثالية» التي تتسم ببعض سمات البراغماتية، بينما تستند الممارسة السياسية للديموقراطيين إلى ما يمكن تسميته «الواقعية البراغماتية» التي تتسم ببعض سمات المثالية الأيديولوجية. * كاتب لبناني